المواطنة المشفوعة بالمشاركة مفهوم انقلابي على النظام السياسي اللبناني
ساسين عساف
المواطنة مفهوم سياسي وقانوني وهو الركن الأوّل والأساس لنظام سياسي مدني يكرّس المساواة أمام القانون في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين، ويعتمد أسبقية الانتماء إليها على سائر الانتماءات التصنيفية أو الفئوية. وهي اليوم من أهمّ المفاهيم التي يتمحور حولها الفقه الدستوري والفكر الاجتماعي والسياسي والإيديولوجي في سعيه إلى بناء دولة الحق وقيام سلطة وطنية تمارس حكم القانون. مفهوم المواطنة، في حال تحوّله إلى ثقافة سائدة، يعزّز الحياة الدستورية ويحدث تغييراً جذرياً في البنية الإجتماعية والسياسية والإيديولوجية ما يفضي حكماً إلى تكوين سلطة أو حكم وطني يقود ثورة في التشريع اللبناني تؤدّي إلى تنقية النصوص الدستورية والقانونية فضلاً عن الأعراف التي لها قوّة الدستور أو القانون من كلّ المواد والإشارات التي تكرّس التمييز بين المواطنين في الحقول كافة.
إنّ تغييب مفهوم المواطنة عن النصوص الدستورية والقانونية وعن الممارسات الحكومية يخلق كما هو الراهن اللبناني لدى الطوائف والمذاهب والإتنيات حالات من العصاب المجتمعي ينتهي إلى الاقتتال الداخلي بهدف اجتثاث الآخر وإقصائه عن المشاركة وإسقاط حقه في المواطنة الكاملة ما يجعل منها قضية لبنانية إنسانية وحقوقية راهنة تمارس عليها أشكال الانتهاكات والمظلوميات كافة. لا عجب في ذلك ما دامت الحكومات المتعاقبة في لبنان منذ إعلان دولته قد مارست الحكم تبعاً لدستور تمييزي في بعض مواده (بخاصة المادة 95) وميثاق غير مكتوب (ميثاق 1943) فرض واقعاً سياسياً وقواعد حكم مقيّدة بأعراف بدت أكثر قوّة وأشدّ تأثيراً في الحياة السياسية وإدارة شؤون الحكم ومؤسساته من الدستور نفسه.
ليست المواطنة في الدستور اللبناني معياراً لنيل الحقوق وتأدية الواجبات وحفظ كرامة الفرد فالمواطنة تجعل الناس متساوين في الحقوق والواجبات والكرامة الإنسانية. ما عدا ذلك أو خالفه جعل المواطنين أصنافاً ودرجات فنشأت النزاعات واتسعت الفوارق ووقعت الصدامات وساءت النظرة إلى الآخر وشاعت ثقافة الإقصاء والإلغاء والاستئثار ما أدّى إلى حرب أهلية كان شعارها الأبرز مطلب المشاركة الذي رفعته قوى إسلامية قبل الحرب والذي رفعته بعد الطائف وترفعه اليوم قوى مسيحية فالغبن ولّد الثورة في وجه الآخر في مجتمع لبناني متنوّع.
معنى المواطنة العدالة والمساواة. إنعدامها نفي لوجودها وعلّة أساسية لاستمرار الفتن والحروب الأهلية.
المجتمع اللبناني متنوّع المكوّنات والمواطنة تستدعي الإجادة في إدارة التنوّع ما يستدعي تطوير النظام السياسي عبر تمكين منظمات المجتمع المدني من احتواء النزاعات وتمثّل قيم العدالة والمساواة المنافية للتمييز أو التفرقة بين المواطنين.
إدارة التنوّع في النظام السياسي المدني تقوم على مبدأ المشاركة. والمواطن لا تتمّ مواطنيّته إلاّ بالمشاركة والتأثير في قضايا المجال العام. من حقّ المواطن أن يجد معنى واقعياً لوجوده. هذا المعنى يجسّده فعل المشاركة المقرون بالحرية. فالمواطنة والحرية شرطان ملازمان للممارسة السياسية في الأنظمة الديمقراطية في حين أنّ الأنظمة السياسية الفئوية، خصوصاً الشمولية منها، تفرغ المواطن من المعنى الواقعي لوجوده: الحقّ الكامل في المشاركة والحرية. فالمشاركة المبنية على الإرادة الحرّة قياس النظام السياسي المدني الديمقراطي.
من مفاعيل المشاركة نعدّد الآتي:
تصويب مسار الديمقراطية وتفعيل آلياتها.
تثبيت التماسك الإجتماعي وتفادي النزاعات والفتن الداخلية وضمان إستمرارية العقد الطوعي أو الرضائي بين المواطنين.
تمتين وحدة الحكم وتعزيز فرص تمكينه من تنفيذ برنامجه السياسي.
توطيد دعائم الوحدة الوطنية، فالوحدة هي من أهمّ منجزات المشاركة وهي جوهر المواطنة وترجمتها العملية.
تثبت أنّ المواطنين قادرون على حكم أنفسهم من خلال دولة الحقّ التي لا فضل فيها لطائفة على أخرى أو لجماعة على أخرى والتي تلغي الامتيازات وتساوي بين الأفراد والجماعات وتعترف للجميع بالحقّ في الاختلاف وتقضي على التوتّرات بين الطوائف بسبب الصراع على السلطة وتحصر التنافس السياسي بآليات نظام سياسي مدني تحول دون تحوّله إلى صراع طائفي أو ديني. إنّ دولة الحقّ لا تقوم إلاّ على قيم المواطنة والمشاركة المكرّسة عالمياً في الأنظمة السياسية المدنية الديمقراطية حيث انتماء المواطن هو لدولة أو أمّة أو وطن وليس إلى دين أو سلالة.
تنقذ لبنان من صراع الأقليات والأكثريات فلا أقلية تنزع لانفصال أو انكفاء أو تقسيم أو فدرلة ولا أكثرية تنزع لاحتواء أو إلغاء أو سيطرة. فالمواطنة قيمة سياسية واجتماعية وثقافية وهي في صميم منظومة القيم المعاصرة التي تشغل حيّزاً واسعاً في الفكر السياسي والسوسيو/ثقافي خصوصاً بعد أن وعت الأقليات ذاتياتها (هوياتها) بضغط من تحكّم الأكثريات بها في المستوى المحلّي وبعد أن تزايد لديها هذا الوعي جرّاء ما عانته من آليات العولمة الاكتساحية في المستوى العالمي.
تعميق مفهوم الدولة في وجدان المواطنين ووعيهم السياسي فعند غياب مفهوم المواطنة المشفوعة بالمشاركة تتحرّك اضطرابات الهويّة الوطنية. الدولة والمواطنة والهوية مثلّث عضوي لا انفكاك فيه وإلاّ تحلّلت البنية. المنطقة من حولنا تعيش في صراع هويات لا ينتهي. وهذا من تداعيات عجز دولها، ومنها الدولة اللبنانية، عن تبنّي مفهوم المواطنة والمشاركة في أنظمتها السياسية. هنا ينبغي البحث عن أصل مشكلة الهوية. إنّها في أنظمة التمييز بين المواطنين والتسلط السياسي والثقافي والاقتصادي عليهم فتشظّت الهوية الوطنية هويات طائفية أو مذهبية أو سلالية ما عزّز ثقافة التعصّب إمّا الاستعلائي وإمّا الانكفائي وعمّق الشعور بالانتماء إلى هويات فرعية أو ما دون وطنية وسائر تشظيات المجتمع الأهلي أو التقليدي. في المجتمع المدني ينتفي لدى المواطن القلق على الهوية. في المجتمع الأهلي يلازمه القلق على الهوية.
تعزيز دور الأحزاب والتيارات السياسية خصوصاً العلمانية منها، فالأحزاب العلمانية تنقل المواطن من “مساحة المحلّة” إلى “مساحة الوطن”، من مساحة التصادم والتشظّي إلى مساحة التلاقي والالتحام، وهي التي تحدث التحوّل الجذري في بنية المجتمع وتنقله من تحكّم مؤسسات الطوائف إلى حكم مؤسسات النظام المدني.
زيادة وعي الأفراد بحقوقهم وبدورهم وتقوية قدراتهم في إدارة الشؤون العامة وفي سلوك السبل السليمة لتسلّم السلطة ولتولّي الوظائف العامة محلية كانت أو مركزية.
المواطنة المشفوعة بالمشاركة تؤمّن للمجتمع استقراره السياسي وتزرع الطمأنينة والثقة في نفوس المواطنين وتدفعهم إلى التنافس السلمي من أجل الخير العام أو المصلحة المشتركة وتحمي المؤسسات الدستورية وتضمن سلامة عملها وتصون الحريات العامة وتضاعف فاعلية المجتمع المدني وتفعّل آليات الحوار لحلّ الأزمات الوطنية وتعمّق الشعور بالإنتماء والولاء للوطن والدولة وتضعف حركات الانكفاء والانفصال أو الاحتجاج والثورة وتقضي على التطرّف والفوضى والعنف والإرهاب وتنمّي العلاقات الودية والمصلحية بين الناس وبها ترتفع درجة الوعي بالمسؤولية الفردية إزاء المجتمع والدولة.