غروب
} هاني سليمان الحلبي*
كأنها فِرقُ عالمٍ علويّ تعزف ألحاناً ما فوق بشريّة.
فيها اجتمعت أرواحُ موسيقيي نينوى ومعابد حرّان وأروفة وأنطاكيا وبعلبك وشهبا وبابل وجبيل والقدس ودمشق وأور..
بجانب الباب يجلس على أريكة من سنديان حرمون جلجامش وفي يمناه يقلّب بأصابعها زهرة خلود تمنّاها حين كان شاباً ليرضي إناث مملكته برجولة لا تذبل، لكنه خاب في رحلة البحث المهيبة، عندما اختطفت أفعى عملاقة زهرته فألّفت سنين كان يريدها..
كان يلقي نظرة على الزهرة ونظرة على أعمدة المعبد التي رفعها لإله سامٍ لكنه مقاتل يريد توسيع كونه وشعبه، ويقرّ عيناً بما فعل.. لكن خطوط الدهور وشيب ذقنه الطويلة كغابات أرز ولزاب تشي بحزن مقيم.. أنا الفرد فيه لم تقنع ولا الرجولة رضيت بذبول شيخوخة..
على الباب الخلفي كان بيتهوفن وديستوفسكي وشوبرت ومحمد عبد الوهاب والموصللي يتسلقون النوافذ ليتسرقوا ألحاناَ لم ترتدها أرواحهم في عزف الأرض.. ليتعلّموا عزف السماء من سورية..
هكذا رأسي مسرح أوبرا ضخم، مفتوح للنور ومباح كالهواء ومتاح كحبر القرآن لكل مرتاد.. جماهير وكوارث..
عندما تكثر حركة الأقدام يأتي حراس معبد الرب ليكنسوا العامّة التي لما تتذوّق بهاء المقام.. فيبقى القلائل.. إنما الصفوة دائماً ندرة.
ترتفع الموسيقى.. جنازة مَن؟ لا أحد يجيب..
كيف ستعرف وقدماك في الأرض وموسيقاك في السماء؟
وحولك وحدة مظلمة.. رفقاؤك مشلّعون في كل قارة، وفي كل مكان يضربون. وفي كل مقال يقولون وكثيرون خارج كوائر الأدام السرمديّ يغسمون..
أخت أو أخ قد يقرعان بابك.. وبعض الكائنات البشرية تقرع بابك. طلباً لفاتورة أرضيّة من حساب دنيويّ. هذا يريد رسم الكهرباء وذاك يطلب رسم الماء، وذلك رسم الإنترنت.. وغيرهم يسرقون رسوم الهواء والنور وإشغال مكان في دولة مستباحة ووطن محتلّ.
وأنت لا تملك شروى نقير سوى بعض نبض يتضاءل.. وجيب قفراء سوى من رائحة عملة منتهكة انقرضت.
وحيداً بدأت.. وحيداً تمضي..
العزف يتصاعد ألقاً وجمالاً بانتظار الآتي..
لكن الملائكة لم تفرغ من سهرة عامرة مع حوريات الكون..
انتظروا قليلاً..
حتى تستعيد بصائرهم النور.. وقلوبهم النبض ليتمكنوا من الطيران والقدوم..
الأهم.. نحن في عصر النهار.. وشمسه تنزلق فوق الأفق الأحمر.. بلون موريكس فينيقي.
والسماء حقل ورد بينهما ممرّ وممشى مفروش بسجاد دمشقيّ مصبوغ بثوب اليسار… تبارك المجد لمن يصنعه ويليق به..
ربما هو الغروب..
*كاتب وإعلاميّ من لبنان.