هل تصدّقون أن لبنان بات أولوية أميركيّة؟
ناصر قنديل
– يعيش الكثير من اللبنانيين فوبيا الأهمية دائماً، فيتخيّلون في كل مرحلة أن العالم يدور من حولهم وأنهم مركز الكون، وأن رؤساء وقادة العالم لا يعرفون النوم قبل أن يسألوا عن آخر أخبار بيروت، والواقع طبعاً ليس كذلك وغالباً ما كان لبنان ملفاً تفصيلياً في الدول الكبرى يصل سقف رتبة المعنيين بتفاصيله الى سفير في مكتب صغير من مكاتب وزارة الخارجية، لكن هذا يشبه الى حد كبير ما كان عليه لبنان في عيون الإدارات المتعاقبة في كيان الاحتلال، وهو ما اختصرته رئيسة حكومة الاحتلال غولدا مائير ووزير دفاعها موشي ديان بمعادلة ساخرة تقول، عندما نريد إعلان الحرب على لبنان سنرسل إليه الفرقة الموسيقية في الجيش، لكن التغيير المضطرد والمتصاعد لمكانة لبنان منذ عام 2000 لم يعد حكراً على كيان الاحتلال، بل يشمل دول العالم بدرجات متفاوتة، لكنه يخصّ الغرب عموماً وأميركا خصوصاً بالنسبة الأكبر، تأسيساً على مكانة كيان الاحتلال وأمنه في عيون الغرب وحساباته، وحجم التهديد المتصاعد لأمن الكيان الذي باتت المقاومة تشكل عنوانه الأهم، ولا تزال حاضرة تعليقات الصحف الأميركية الكبرى على الصورة التاريخية للرئيس جورج دبليو بوش مع الرئيس فؤاد السنيورة، في حديقة البيت الأبيض عام 2007، بينما رئيس وزراء اليابان ينتظر موعداً للقاء بوش، حيث الجواب عن السرّ كان بأن لبنان يختزن قوة المقاومة التي تمثل التهديد الأبرز لمستقبل الكيان الذي يشكل مصدر الاهتمام الأبرز للسياسة الخارجية الأميركية.
– يكفي أن يقوم مركز توثيق بإحصاء عدد المرات التي ورد فيها ذكر لبنان في تصريحات الرؤساء ووزراء الخارجية والدفاع في واشنطن منذ العام 2000، وعدد اللبنانيين الواردة أسماؤهم على لوائح عقوبات أميركية مختلفة، وعدد زيارات الموفدين الأميركيين الى لبنان، وحجم الأموال الأميركية المنفقة في لبنان، وقد كشف بعضها ديفيد هيل امام الكونغرس بذكر رقم العشرة المليارات، وكل ذلك اهتماماً وحضوراً وعقوبات وهو إنفاق لا يتناسب مع حجم لبنان السياسي والاقتصادي والسكاني والعسكري، لكنه يتناسب مع الأهميتين المترابطتين، أهمية لبنان في فهم مستقبل أمن الكيان، وأهمية الكيان وأمنه في الحسابات الأميركية، وبقياس المعايير الأميركية الاستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط، المعلن عنها والمصرّح بها والتي تختصرها ثنائية الاهتمام بمصادر الطاقة وأمن “إسرائيل”، فإن لبنان يجسّد منذ العام 2000 بصورة متزايدة ومتصاعدة رمز الخطر على أمن الكيان. وبات رمز المصادر الجديدة للطاقة في الشرق الأوسط منذ معرفة الأميركيين بحجم ثروات الغاز في المياه اللبنانية والتي تزيد قيمتها التقديرية عن ألف مليار دولار، وهي معرفة تسبق معرفتنا عام 2009 بسنوات، وقد بتنا نعرف اليوم لماذا لاحق الأميركيون مَن خاصم الرئيس السنيورة عام 2007، ولماذا منحوه هذه الأهمية، بعدما بات معلوماً أن ما فعله السنيورة عام 2007 في ترسيم الحدود المائية بين لبنان وقبرص كان بهدف منح كيان الاحتلال المساحات التي يتوافر فيها أكبر مخزون للغاز في البحر المتوسط والشرق الأوسط، وبتنا نعرف سبباً إضافياً لحرب تموز عام 2006، كما نعرف أن كثيراً من حروب المنطقة والسياسات الأميركية فيها، كان لها عنوان يُضاف لعناوينها وأهدافها، هو ملاحقة المقاومة وإضعافها وتقييدها وتحييدها، لضمان ثنائية أمن الكيان والإمساك بمصادر الطاقة. وفي هذا السياق لا مبالغة بالقول إنه من ضمن الأسباب الكثيرة للحرب على سورية وللمواجهة مع إيران تقف المواجهة مع المقاومة في قلب الأهداف الكبرى.
– تحولان كبيران يمكن رصدهما، ان لبنان يتقدم الى موقع يمثل فيه نقطة التقاطع الأولى والأهم بين ركني الثنائية الأميركية في رسم الاستراتيجيات، الى حد لا يصير فيه من المبالغة القول إن حدث التطبيع الخليجي الاسرائيلي هو حدث سياسي وانتخابي، بينما الحركة على المسرح اللبناني تعبير استراتيجي، بل يمكن القول بعكس اعتقاد الكثيرين، أن مقاربة واشنطن لملفي سورية وإيران تنطلق من طريقة المقاربة الأميركية للملف اللبناني وفي قلبه المقاومة وموقعها كمصدر خطر على أمن الكيان وعلاقة قوتها بحدود وأمن ملف الغاز، وليس كما يعتقد الكثيرون أن مقاربة الملف اللبناني أميركياً تتم بوحي المقاربة الأميركية بالتتابع للملفين الإيراني والسوري، أما التحول الثاني فهو أن الأميركي الذي رسم هدفاً لاستراتيجياته منذ العام 2000 تراوح بين سحق المقاومة وتصفيتها وصولاً لارتضاء عزلها ومحاصرتها وتقييد سلاحها وتحييده، عن ملفي الطاقة وأمن الكيان، قد استنفد وسائل وادوات الرهان على تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي، والتي كانت في صلب أهداف حرب تموز 2006 لسحق المقاومة والحرب على سورية لكسر ظهر المقاومة، والحصار على إيران والخروج من الاتفاق النووي معها، بخلفية تجفيف موارد المقاومة، وصولاً لدفع لبنان نحو الانهيار المالي وتفجيره اجتماعياً مع تفجير ليرته ومرفأ بيروت وتفجير ثورة تقودها مؤسسات إعلامية ومنظمات مجتمع مدني يمولها الأميركي. وفي قلب كل ذلك الحصار السياسي للحكومات والضغوط لفرض هويتها وطريقة تشكيلها على قاعدة عزل المقاومة، والاستعمال الهادف للعقوبات، ولم يُؤت أي منها ثماراً يُعتدّ بها، فجاء القبول الأميركي بلعب دور الوسيط في ملف ترسيم الحدود البحرية في ظل بقاء السلاح، ودور السلاح وحضور السلاح، الذي لولاه لما كان هناك تفاوض، والذي في ظله ثمة سقوف ينضبط تحتها التفاوض، ليصير التفاوض في ظل السلاح، مدخلاً لرهان على تحييد من نوع مختلف للسلاح عن أمن الكيان ومصادر الطاقة، عنوانه منح لبنان ما يكفي من مطالب تقطع طريق صواريخ المقاومة نحو منصات الغاز، التي تشكل مصدر فرصة الحرب الأخطر على أمن الكيان ووجوده بنظر الأميركيين، ليصير الإفراج عن الثروات اللبنانية، كما من قبله الإفراج عن الأراضي اللبنانية المحتلة عام 2000 طريقاً أحادياً تفرضه قوة المقاومة، للاستقرار، فيما يصف جيفري فيلتمان ما يجري بجملة معبرة، بقوله، سيحتفظ حزب الله بكعكته وسيأكلها في وقت واحد، فسيحصل للبنان على ثروات وافرة، ويحفظ سلاحه، ليصح القول إن لبنان في طريق التحرير الثالث وربما الأهم.
– السؤال الذي يطرحه هذا التحول الاستراتيجي، هو الى اي مدى ينتبه مؤيّدو المقاومة الغارقون في نقاشات هامشية حول التفاوض، الى ان المقاومة تحقق نصراً استراتيجياً سينعكس تسريعاً وحذراً في التفاوض لعدم استفزاز المقاومة؟ والى أي مدى يدرك حلفاؤها أنها تتحوّل من مصدر نقمة كما يخشون الى مصدر نعمة وهم لا يعرفون؟ والى أي حد يشكل الإفراج عن الفرصة الحكومية الجديدة دولياً تعبيراً عن هذا التحول، حيث لم يعد الانهيار اللبناني مفيداً، بل صار مصدر خطر، ومع الحكومة الجديدة سنكون على الأرجح مع تعويم مالي لضمان الاستقرار بعكس مسار الانهيار، ليس لأن شخص رئيس الحكومة موضع ثقة، ولا لأن الخطة الإصلاحيّة تستجيب للشروط التقنية للمؤسسات الدولية، ولا لأن المبادرة الفرنسية حققت اختراقاً بعدما اخترقوها مراراً، بل لأن معركة تحييد وتقييد سلاح المقاومة قد انتهت لصالح تثبيت موقع هذه المقاومة في معادلات المنطقة، كلاعب إقليميّ كبير، لا تصدّه دعوات حياد كانت موضع تشجيع أميركيّ في مرحلة الاشتباك وصارت طلقة صوتيّة مع نهاية هذا الفصل من هذا الاشتباك.