رجل الدولة حسان دياب
} أحمد بهجة*
قلما وُجد في لبنان رجال دولة. الأعمّ الأغلب من القيادات هم سياسيون عاديون ورثوا «المهنة» وما يتبعها من مواقع ومناصب، أو وصلوا إليها عن طريق ميليشيا ما أو عن طريق ما تكدّس لديهم من ثروات وأموال من الداخل والخارج وأرادوا الجمع بين المال والسلطة، وهو الأمر الذي أصبح موضة دارجة في كلّ أرجاء المعمورة.
يغلب على أداء هؤلاء السعي إلى تحقيق المصالح الضيّقة، سواء المصالح الشخصية أو الفئوية أو الانتخابية، حتى لو كان ذلك بشكل مخالف للقانون وعلى حساب المصلحة العامة لمجموع المواطنين.
أما رجال الدولة القلائل جداً في لبنان فهم من طينة مختلفة تماماً، إذ لا علاقة لهم على الإطلاق بكلّ ما يسمّى مصالح خاصة يسعون إلى تحقيقها من خلال المواقع المسؤولة التي وصلوا إليها في القطاع العام على اختلاف هذه المواقع والوظائف والمسؤوليات.
نحن اليوم أمام نموذج متقدّم من رجال الدولة. يمثل هذا النموذج رئيس الحكومة الدكتور حسان دياب، الذي تجتمع في شخصه الكريم كلّ الصفات التي لا بدّ منها لكي يُقال إنّ حاملها هو رجل دولة بامتياز.
فالرجل عصاميّ بنى نفسه بنفسه ووصل إلى أعلى المراتب العلمية التي أهّلته لأن يتبوّأ أرفع المواقع الأكاديمية، وصولاً إلى تعيينه وزيراً للتربية والتعليم العالي عام 2011، ثم اختياره رئيساً للحكومة عام 2019.
وقد حرص الرئيس دياب على أن يشكل حكومة اختصاصيين، نجح عدد غير قليل من أعضائها في أن يكونوا رجال وسيدات دولة أيضاً، فيما أخفق البعض منهم نتيجة اعتمادهم الأساليب والوسائل السابقة نفسها في العمل العام وإدارة الأذن لهذا أو ذاك من ملوك الطوائف الذين يريدون الاستمرار في تحقيق مصالحهم على حساب المصلحة العامة كما ذكرنا في البداية.
وما يميّز الرئيس دياب أيضاً قدرته على العمل بشكل مستمرّ ومتواصل، حيث وصل الرجل الليل بالنهار في العمل، ونقل مقرّ إقامته إلى السراي الحكومية حتى يتمكّن من العمل أكثر وأكثر، وأيضاً حتى لا يُزعج المواطنين والجيران في تنقلات موكبه يومياً من المنزل إلى المكتب ذهاباً وإياباً.
وقد أوردنا في مقال سابق الكثير من الصفات التي تدلّ على خامة الرجل وانطباق مواصفات رجل الدولة عليه بالكامل، لكن لا بدّ في هذه العجالة من الإضاءة على قرارات اتخذها الرئيس دياب في الأيام الأخيرة، وهي تثبت أيضاً ما نقوله كونها قرارات خلفيتها إنسانية وتصبّ كلياً في مصلحة المواطنين ومن دون أيّ خلفية أو حسابات خاصة أو شخصية، وهذا ما يجعل المسؤول قوياً كما كان يردّد دائماً الرئيس «الضمير» الدكتور سليم الحص القائل «إنّ المسؤول يبقى قوياً إلى أن يطلب شيئاً لنفسه».
أبرز القرارات التي اتخذها الرئيس دياب في الأيام الأخيرة كانت تلك المتعلقة بمساعدة المتضرّرين من انفجار خزان البنزين في الطريق الجديدة، حيث أوعز للهيئة العليا للإغاثة بأن تعوّض على الناس مادياً، وإعطاء بدل إيواء لمدة ثلاثة أشهر لكلّ العائلات التي اضطرت إلى ترك منازلها، وتقديم مساعدات مالية لكلّ العائلات التي فقدت أحد أفرادها نتيجة الانفجار، هذا فضلاً عن تكليف قيادة الجيش ـ لجنة مسح وتخمين الأضرار بالكشف على كافة الأضرار التي حصلت نتيجة الانفجار، للبحث لاحقاً في كيفية التعويض عنها.
وفي قرار آخر تمّ أيضاً تكليف قيادة الجيش ـ لجنة مسح وتخمين الأضرار بالكشف على كافة الأضرار الناتجة عن الحرائق التي اندلعت في كافة المناطق اللبنانية، تمهيداً لقيام الهيئة العليا للإغاثة بتعويض ما يمكن تعويضه على الناس الذين تضرّروا بممتلكاتهم ومزروعاتهم، فضلاً عن التعاون مع البلديات لترميم الثروة الحرجية في كلّ المناطق.
وقبل أيام قليلة استقبل الرئيس دياب في السراي الحكومية، وفداً من «لجنة عائلات شهداء مرفأ بيروت» وأبلغهم أنه وقّع مشروع قانون يرمي إلى اعتبار «الذين استشهدوا في خلال الانفجار شهداء في الجيش اللبناني، وإعطاء أصحاب الحقوق تعويضات ومعاشات تقاعد جندي استشهد خلال تأدية الواجب، كما يُعتبر الأشخاص الذين أصيبوا بإعاقة كاملة أو جزئية جراء الانفجار مشمولين مدى الحياة بالتقديمات الصحية للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي».
وأيضاً بناء لتعليمات الرئيس دياب، سيتمّ اليوم الاثنين تحويل 100 مليار ليرة من الهيئة العليا للإغاثة إلى الجيش اللبناني لكي يتمّ توزيعها على أكثر من عشرة آلاف تضرّرت من جراء انفجار في المرفأ، وذلك على اثر انتهاء الجيش من عملية المسح للمنازل المتضرّرة…
هذه قرارات مهمة جداً لم نكن في السابق نرى مثيلاً لها، بل كنا نرى المحسوبيات وكانت المساعدة تعطى لفلان وتحجب عن آخر، وكنا نرى استغلال كلّ الأحداث مهما كانت مأساوية لتوظيفها في خدمة مصالح هذا أو ذاك من المسؤولين، وأبرز مثال على ذلك مصير المساعدات الهائلة التي وصلت إلى الدولة اللبنانية على أساس أنها للتعويض عن الأضرار الكبيرة التي تسبّب بها عدوان تموز ـ آب 2006 في أكثر من منطقة لبنانية، لا سيما في الجنوب والضاحية الجنوبية، حيث اعترف رئيس الحكومة آنذاك، وفي خطاب علني تحت قبة البرلمان نقلته كلّ وسائل الإعلام، بأنّ هذه المساعدات تمّ التصرّف بها لأغراض وغايات أخرى، وبالتالي لم يصل منها شيء للمواطنين الذين أرسلت من أجلهم.
اليوم يُحكى عن توجّهات لإعادة هذا النهج السابق نفسه إلى الحكومة الجديدة، علماً أنّ الجميع يعرفون تماماً أنّ هذا الأمر ليس من مصلحة لبنان واللبنانيين، بل المصلحة الأكيدة هي في تجديد الثقة بالرئيس دياب لكي يتابع ما بدأه ولكي يشرف على تنفيذ ما تمّ وضعه من دراسات وخطط إصلاحية، وإطلاق المراحل التنفيذية للمشاريع الإنمائية التي تمّ الاتفاق بشأنها مع الجانب الصيني، ومتابعة تنفيذ ما اتفق عليه مع الجانب العراقي، والاستفادة من العروض الإيرانية والروسية في أكثر من مجال حيوي يحتاجه لبنان واللبنانيون الذين هم بغنى عن الخوض مجدّداً في تجربة سبق ومرّوا بها هي نفسها، على قاعدة المثل الشعبي القائل «مين جرّب المجرّب…»
*خبير اقتصادي ومالي