من نصّب الإنسان إلهاً على الأرض؟ وكم من جلّاد اليومَ كان ضحيّة أمسِ؟
«الملعون المقدّس» للكاتب محمد إقبال حرب:
} د.علي نسر
ليس من مكان، إن استثنينا الجنّة التي رسمتها الأديان، يخلو من الصراع… الصراع الّذي تفرضه الذات منذ انطلاقتها لتحديد هويّتها وماهيّتها، وذلك لأنّ أبرز ما يميّز الوجود هو رغبة المرء في إثبات وجوده وانتزاع الاعتراف به من الساعين إلى الهدف نفسه أحيانًا، ولو كان الموت ثمنًا.
وتشكّل رواية «الملعون المقدّس» للكاتب محمّد إقبال حرب، مسرحًا لعرض أنواع متعدّدة من الصراعات التي لا حركة لعجلة الحياة من دونها، وأكثر ما يمثّل هذا الصراع حياتيًّا، وقد تجلّى واضحًا في الرواية، الصراع بين الخير والشرّ، والخيانة والأمانة، والمعجزات والعلم، والحياة الشرعية والطرح المدني للحياة… وقد اختزلت صورة هذا التنوّع الصراعي في ما يعرف لدى علماء النفس، بصراع الهو والأنا الأعلى لتستقرّ الأنا أو تضطرب، وهذا ما لم يكن بعيدًا مما ذكره القرآن نفسه حول النّفس الأمّارة بالسوء والنفس اللوّامة والنفس المطمئنة. وهذا ما يدفعنا إلى حصر الصراع، كما ألمحت الرواية، بين الشيطان والإنسان، وكأنّ الكاتب يريد دحض فكرة الصراع بين الله والشيطان لأنّ الله خالق والشيطان مخلوق، بينما الصراع يتأجج بين المخلوقين: الشيطان والإنسان لما بينهما من قواسم حينًا، وتباينات حينًا آخر.
انطلاقًا من عتبة العنوان «الملعون المقدّس»، يعمل الكاتب، في ما يُعرَف بنظرية التلقّي، على تشويش آفاق انتظار القارئ المختلف، إذ يقوم العنوان على ثنائيّة ضديّة نرى المتن النصّي يقيم تحت مظلّتها، لنكتشف شخوصًا ورقيّة، تشبه شخصيات واقعية يمكن العثور عليها في أي مكان وزمان، منذ أن أعلن الشيطان تمرّده على الله متّخذًا الإنسان وسيلة للتحدّي فينتصر مرة وينهزم مرة أخرى. فهي شخصيات روائية فيها من الفعل الحقيقي ومن الصور الخارقة التي تشكّل امتدادًا للمعجزات النبوية المتوراثة عن الأساطير والكتب السماوية.
يجعل الكاتب من قضيّة الصّراع صندوقَ صوتٍ يفور بالأصوات الأخرى، ليطرح قضايا إشكالية تتفرّع من قضيّة الصراع الأساس، ثمّ تنفتح على آفاق أوسع، فارضة أسئلة وجودية على المتلقي، مصدّعة ثوابت اسمنتية من الأفكار المتكلّسة، تحت وابل الطروح المنبثقة من المتغيّرات التي لم يفسح في المجال أمامها بحجّة أنها دخيل يريد تهديد الوعي القائم المألوف.
وأبرز ما انبثق من القضية المحورية، تلك العلاقة الملتبسة بين الإنسان والله، حيث يرى الكاتب، أنّ الإنسان يخلق إلهه خوفًا، ويستجديه ضعفًا (ص. 12)، ثمّ تهتزّ الثقة به عند أوّل استحقاق يرى المرء فيه نفسه وحيدًا يواجه قدره بما يقنع به نفسه أنه الوسيلة الأنجح لتخطّي الصعوبات، محمّلًا الضحيّة مسؤولية ما ارتكبه من جرائم بحقّها في أحايين كثيرة (ص. 71)، راميًا المسؤولية على الله بحجج أقرب إلى الجبرية. وهذا متوارث عن صاحب هذه النزعة الأوّل. وهو الشيطان حسب القرآن إذ يرمي مسؤولية عصيانه على الله بحجّة إغوائه بما سيفعل (قال ربّ بما أغويتني لأزيننّ لهم في الأرض ولأغوينّهم أجمعين). لتصل الأزمة إلى ذروتها في ما يوجّهه المرء المضطّرب في علاقاته بنفسه وبالناس وبربّه، إلى الله من عتاب، وكأنّه يفقد الثقة بقوّته وحمايته ورعايته (ص. 13)، وهذا يردّنا إلى النظرة المأسوية في الوجود، تلك الّتي اكتشفها الباحث الروماني (لوسيان غولدمان)، في خواطر باسكال الفلسفيّة ومسرحيات راسين الأدبية، رادًّا هذه النظرة إلى حركة الجانسينيية الدينية. هذا عند الغرب، أمّا في عالمنا العربيّ فأكثر من جسّد هذه النظرة شعراء الحداثة حين شعروا أنّهم متروكون لقدرهم، لا بل إنّ الإله قد تخلّى عنهم شامتًا بهم لما سقطوا فيه من منزلقات ومآسٍ، وقد اختزل هذه الصورة الشاعر اللبناني خليل حاوي في قوله منتصف القرن العشرين: «إله وأيّ إله كؤود/ يرود يرود الوجود/ يجرّ البريء إلى وكرهِ/ ويضحك في سرّهِ».
ويبقى الإنسان يدور في حلقة مفرغة، حاملًا فوق أكتافه أوزار الجماعة والمحيط حيث نشأ، فيصبح التغيير صعبًا، والإقامة تحت عباءة الأسلاف عصيّة على الخروج، فيحمل المرء رؤية أُسقطت عليه واستحالت عرفًا مقدّسًا لا يمكن أن تمسّ آياته (ص. 90)، فيتوقّف خرق هذا الجدار على معجزة فرديّة تحتاج الكثير لإثبات نفسها أمام العراقيل، لكنّ الفكر والجسد اللذين مُنحهما الإنسان قادران على جعل التغيير أمرًا واقعًا حيث رسم الوعي الممكن عبر ثورة من الداخل شريطة الرؤية من خارج الإطار المرسوم لنا، وهذا يذكّرنا بثورة الأنبياء الذين ما كانوا لينجحوا لو لم تتسن لهم فرصة الخروج ورؤية المشهد من الخارج. وهذا يستدعي حرية في الاختيار، وتبنّي وجهة نظر في الوجود لأنّ الإنسان برجسه وشرّه استطاع أن يتحدّى جميع المخلوقات حين حمل الأمانة التي لم تستطع حملها الجبال والسماوات والأرض فحملها الإنسان كما جاء في القرآن. كلّ هذا يؤكّد الحاجة إلى العقل والفكر، حيث المرء يخرج إلى الدنيا من دون تصوّر سابق لوجوده، كالطحلب لا أساس له، فيبدأ بتحديد هويّته عبر اختياراته الصعبة (ص. 93) في خضمّ المتناقضات المتلاطمة. وكل هذا يعود إلى تركيبته البنيويّة التي تحدّى بها الملائكة، وجعلهم يسجدون له لما يمتلكه من قدرة على التعلّم وحبّ الاكتشاف المتوارث من آدم وحواء اللذين سئما من التلقين في الجنّة وأحبّا الاكتشاف فبارك الله خيارهما وأنزلهما إلى الأرض لاكتشاف مفاتيح الكون وما زالت هذه سمة لدى البشري إذ يتحمّل المخاطر من أجل اكتشاف المجهول (ص. 137).
وعلى الرغم من هذه السمات الإلهية في الإنسان، إلا أنّه جنح عن صفاته الّتي كان يمكن له أن يكون خليفة الله الحقيقي من خلالها، لكنّه أفسد في الأرض وسفك الدماء وارتكب الموبقات منتصرًا الهو فيه على الأنا الأعلى، مسوّغًا لنفسه ارتكاب المحارم ليظلّ مرتاح الضمير (ص. 22)، ليأتي أخوه الإنسان ويزيده إجرامًا عبر معاقبته بطرق أبشع مما اعتمدها في اقترافه الشرّ، وبدلًا من تخليصه من سمات الإجرام يزداد إصرارًا عليها. هكذا حصل في محاولة معاقبة (عرقول) و(دوران) الشخصيّتين المحوريتين في النصّ، ، حين مورس عليهما أبشع أنواع التعذيب عقابًا لهما، ما جعل عرقول أكثر إجرامًا، يرى أنّ الله استقال وتنحّى جانبًا ليكون الأقوى ممثّلُا له على الأرض يمارس باسمه أبشع الأفعال (ص. 14)، والضعيف الذي لا سند له هو مَن يدفع الأثمان باهظة (ص. 71) وهذا ما حذّر منه الشاعر المصري صلاح عبد الصبور يومًا في مأساة الحلاج حين قال: «ما أتعس أن نلقي بعض الشر/ ببعض الشرّ،/ ونداوي إثمًا بجريمة».
وعلى الرغم من ضبابية المشهد، إلا أنّ الكاتب ألمح إلى الخلاص، خلاص يتوقّف على الإرادة البشرية من جهة، والتدخّل الإلهي من جهة أخرى، مؤكّدًا أنّ الله ذو سعة من الرحمة مترامية الجهات، لا تنقطع فرصه للجاني والمجني عليه، للكافر والمؤمن، مؤكّدًا أنّ هذا الواقع الموبوء لا خلاص له إلا بمعجزة جديدة، وما الجلّاد إلا ضحيّة قبل اقترافه الموبقات، ويحتاج إلى بذرة حياتية جديدة، مثّلها في النص الشيخ (نوس) الّذي تكفّل بإنقاذ (عرقول) عبر إعادته مولودًا في طريق ابنته التي تكفّلت بها امرأة ذات تصرفات خارقة تدعى (أنويا). لكنّ الرؤية الروائية أكثر ما تمثّلت في تذويب المسافة بين الأضداد والمتناقضات، وكأنّ هذا ما يحتاج إليه الوجود ليتخلّص من معاناته، أكثر مما يحتاج إلى انتصار طرف من النقضين على الآخر، لأنّ الشرّ والخير ليسا ذاتيين (ص. 148)، بل يخضعان لكيفيّة التصرّف بهما، وهذا يتوقّف على الإنسان وأفعاله. فالمعجزة لا بدّ منها، لكنّ لا معجزة من دون علم وإرادة، وكذلك الحياة شرعًا لا تستوي إلا بما يقابلها من حياة مدنية جسّدها الكاتب في ما يشبه التوفيق بين الجانب الشرعي للزواج والجانب المدني (ص. 165) حيث كل طرف أنقذ الآخر بدلًا من القضاء عليه وكأنّ هذا ما نحتاجه اليوم طريقًا للخلاص.
أمّا من الناحية الفنيّة، وهذا الجانب الأكثر تحديدًا لهوية النص الأدبيّة، فقد استطاع الكاتب أن يوظّف العديد من العناصر السرديّة التي تضافرت في سبيل تشييد عالم النصّ الروائي، حيث تقنيات الزمن ومفارقاته، وإن كان السرد تتابعيًّا في محطات كثيرة وجاء ذلك على حساب بعض عناصر التشويق، كما اعتمد الكاتب الراوي العليم، وهذا يتناسب مع طبيعة النصّ الروائي إذ لا يمكن أن يكون الراوي بطلاً من أبطال النص محدود المعرفة، خصوصًا أنّ الجوانب الإعجازية الخارقة تحتاج إلى راو مطلق المعرفة يعرف المكشوف والمستور، لكنّ هذا لم يسعف الكاتب في البقاء خارج النصّ، إذ لم يكن كالله حسب تعبير فلوبير، حاضرًا في كلّ مكان لكنه لم يُر في أيّ موضع، بل كان موجودًا بثقله في بعض الأحيان، فارضًا وجهة نظره على الشخصيات، محدّدًا مصيرها من دون حرية لها، بل قدّم نفسه واعظًا أحيانًا عبر مقاطع يمكن أن تكون خارج حركة الزمن السردي، ومنها المقطع الذي جعله يشارك السجّان في حكمه على البطل بأنّه نتن ومجرم (42)، طارحًا أسئلة كان ينبغي تركها للمتلقي ليطرحها عليه وعلى نفسه (ص. 59)، فكان يمكن للكاتب أن يظلّ محايدًا أكثر، يدير شخصياته ويحرّكها بخيوط رفيعة كمخرج متوارٍ خلف ستارة المسرح.