تركيا و«إسرائيل»… حالة درامية وعمل مسرحي منظم
} أمجد إسماعيل الآغا
مقولة تتجسّد واقعيتها مع ما نشهده اليوم لجهة تمجيد السياسات وتبرير القرارات. هي مقولة تتمحور في جزئياتها حول «من يتكلم كثيراً يخطئ كثيراً»، إذ تنطبق هذه المقولة على عديد السياسيين الذي لا يتوارون عن إلقاء الخطب العصماء، وعقد المؤتمرات واللقاءات الصحافية، لترسيخ صورتهم في الأذهان، وتسويق ما يريدونه بطرق ناعمة وفاعلة ومؤثرة، وواقع الحال يؤكد بأنّ رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان يأتي في عداد أبرز أولئك السياسيين، الذين تبرز أخطاؤهم وتناقضات أقوالهم في عديد القضايا الداخلية والخارجية.
«أردوغان في مواجهة أردوغان»، ليس مستغرباً أنّ يكون الرجل عدو نفسه، أو أنّ يقوم بفضح خططه وما تمّ تكليفه به مرات عديدة وفي مناسبات متعددة، إذ لم تشفع قدرة أردوغان الخطابية في التغطية على مكنونات ما يفكر به، وهنا تبرز أمثلة كثيرة تؤكد بأنه أداة أميركيّة الهوى «إسرائيليّة» التوجهات.
قال أردوغان أثناء خطاب ألقاه في اسطنبول في 4 آذار 2006، متحدثاً عن مشروع «الشرق الأوسط الكبير» والدور التركي فيه، «إنّ تركيا صاحبة دور مهمّ وكبير في الشرق الأوسط الكبير، هل تعلمون ما هو؟ صرنا جزءاً لا يتجزأ ممن أطلقوا فكرة مشروع الشرق الأوسط الكبير ومشروع شمال أفريقيا». وفي لقاء تلفزيوني في 14 شباط 2004، قال: «أنظر إلى تركيا الآن بكونها تختلف عما سبق في سياساتها الخارجية، خصوصاً ديار بكر، في ظلّ المشروع الأميركي المسمّى الشرق الأوسط الكبير الراهن، أو الشرق الأوسط الواسع، وأرى أنّ ديار بكر من الممكن أن تكون نجماً ساطعاً أو مركزاً لهذا المشروع».
في ذات الإطار، ذكر الصحافي التركي إبراهيم قابان، أنّ «إعادة الخلافة هو الهدف من سعي أردوغان لتدعيم مشروع الشرق الأوسط الكبير». وأوضح: «هذا المشروع يتلخص في تقسيم الشرق الأوسط إلى مناطق مستقلة على أساس عرقي وديني ومذهبي، ما يعني أقصر وأسهل طريق لإعادة الخلافة، وعودة الحلم العثماني من جديد بقيادة أردوغان».
ضمن ما سبق يبدو جليّاً بأنّ أردوغان يهندس مشروعاً أميركياً إسرائيلياً في المنطقة، إذّ أنّ محاولات أردوغان لم تنقطع لتحقيق أقصى استفادة ممكنة من التناقضات السياسية في الشرق الأوسط، يأتي ذلك وفق معادلة أميركية «إسرائيلية» تركية، لتعميم نماذج الفوضى في المنطقة. فالمناورات السياسية وكذا العسكرية التي أتيحت إبان ما سميّ الربيع العربي، حققت الأرضية الصلبة التي تحتاجها «إسرائيل» لتحقيق نظريتها بتأمين محيطها الإقليمي، ولا سبيل لتحقيق ذلك إلا بمساعدة تركية.
أردوغان الذي قام بتوظيف القضايا العربية لصالحة لا سيما القضية الفلسطينية. حيث شكّل توظيف هذه القضايا معادلة اخترق بموجبها أفئدة العرب والمسلمين، لكن في المقابل، فإنّ أردوغان يرفع بإحدى يديه رايات الأقصى والقدس، ويده الثانية بيد «إسرائيل» بحميمية قلّ نظيرها، وبذات التوقيت لم تتوقف الجوقة التركية عن نظم شعارات التضامن ودعم القضية الفلسطينية، لكن في سياق المشهد الضبابي الذي يؤطر الشرق الأوسط، بقيت العلاقات التركية «الإسرائيلية» بمنأى عن الغوص بها، أو كشف مضامينها وأهدافها لجهة الوقائع الإقليمية، وعمقها الاستراتيجي، وتحديداً حيال القضية الفلسطينية، حتى باتت جزئيات العلاقة التركية الإسرائيلية تحتوي الكثير من الحقائق الغائبة.
نجح أردوغان باستمالة تعاطف العرب والمسلمين، فالأناقة السياسة واستنهاض العواطف الجياشة، ربما حققت أهدافه لدى المغيّبين عن نهجه وأسلوبه الاستراتيجي، فـ بالرغم مما يظهره لجهة التصريحات العدائية تجاه واشنطن وتل أبيب، إلا أنّ هذه التصريحات تأتي في سياق سيناريو معدّ بدقة، يهدف إلى إبقائه على هرم نصرة العرب والمسلمين، وليبقى رأس حربة أميركية و«إسرائيلية» تعمل باستمرار لاختراق وشرذمة المنطقة، وفي جانب موازٍ، فمن الواضح أنّ أردوغان يعدّ أداة استراتيجية بيد واشنطن وتل أبيب، يتمّ توجيهه وفق مقتضيات المصالح الأمريكية والإسرائيلية في عموم المنطقة. كلّ ذلك، يأتي وفق حالة درامية ومسرحية مكشوفة المضمون والأهداف.
في ذات الإطار، من المؤكد أنّ كثر من استمالهم أردوغان حين وبخّ ذات مرة شمعون بيريز قبيل مغادرته اجتماعاً علنياً في دافوس احتجاجاً على سياسة «إسرائيل»، وفي حادثة أخرى لمّ تغب عن أذهان الكثيرين، تتعلق باعتذار «إسرائيل» لتركيا عن حادثة سفينة كسر الحصار على غزة.
تلك الحادثتين وعلى الرغم من السيناريو المبدع الذي هندس بإخراج مشترك «إسرائيليّ» تركيّ، إلا أنه لا يمكن أنّ يتمّ تبيض صفحة العلاقات التركية «الإسرائيلية»، ولا يمكن الوثوق بالجزئية الكاذبة حيال دفاع تركيا عن القضية الفلسطينية، والدليل أنّ كلّ حوادث الإرهاب الإسرائيلي تجاه فلسطين والفلسطينيين والمقدسات والقدس، لم تحرك ساكناً من سواكن أردوغان تجاه إسرائيل، سوى بالشجب والاستنكار، بينما خيارات الصداقة متعددة الأوجه وعلى المستويات كافة، حتى باتت هذه العلاقة لا تزعزعها «زوبعة في فنجان».
في المحصلة، كثافة الاستثمار التركي في المنطقة، وعطفاً على آليات التفاعل التركية حيال القضايا العربية، فقد تحوّلت تركيا بناءً على تلك المعطيات إلى طرف رئيس وفاعل في عمق الأجندة الإسرائيلية في عموم المنطقة، حتى بات مسرح الشرق الأوسط يحظى بتركيز استراتيجي تركيّ «إسرائيليّ»، وفق حالة درامية تثير الجدل، ستتكشف فصولها تباعاً.