فاعليات نقابية ومالية واقتصادية وإعلامية دقت ناقوس الخطر منذ 2018 الحلّ سياسي ومشروط بالإتيان بمن يتمتعون بالكفاءة والنزاهة دون غياب مراقبة الأداء والمحاسبة
ندوة افتراضية لـ «ملتقى حوار وعطاء بلا حدود» عن «القطاع الصحي في لبنان بين الواقع والمرتجى»
} تحرير: عبير حمدان
نظم «ملتقى حوار وعطاء بلا حدود» ورشة عمل افتراضية حول واقع القطاع الصحي في لبنان بين الواقع والمرتجى، شارك في الندوة نقيب الأطباء البروفيسور شرف أبو شرف ونقيب أصحاب المستشفيات الخاصة في لبنان المهندس سليمان هارون ونقيب الصيادلة في لبنان د. غسان الأمين وممثل الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي – رئيس الديوان والمسؤول المالي شوقي أبي ناصيف، إضافة إلى الخبراء الاقتصاديين د. طالب سعد ود. نقولا شيخاني.
أدار الحوار الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين والتربوية أميرة سكر.
حمود: السياسات المالية والاقتصادية الخاطئة أوصلتنا الى الحالة الكارثية القائمة
استهلت الندوة بشرح الأسباب الموجبة لها حيث تحدث مُنسّق الملتقى د. طلال حمود وقال: «إنّ الملتقى يضمّ عدداً كبيراً من الفاعليات السياسية والإعلامية والمالية والاقتصادية والأكاديمية والفكرية والاجتماعية والصحية والتربوية، وقد انطلق منذ ثلاث سنوات، وكان من أوائل المحذّرين من مخاطر الوصول إلى هكذا أزمات ودقّ ناقوس الخطر من خلال مجموعة أنشطة وندوات كان أهمّها مؤتمر اقتصادي مالي انعقد خلال آذار ٢٠١٨ في بيروت، بحضور الوزيرين السابقين جورج قرم وشربل نحاس وثمانية من خيرة خبراء المال والاقتصاد في لبنان، وحذرنا حينها أن نتجه نحو انهيار اقتصادي وتهديد للأمن الاجتماعي نتيجة السياسات الاقتصادية والمالية الخاطئة التي اعتمدتها طبقة حاكمة فاسدة أمعنت في نهب وسرقة مقدّرات وثروات المجتمع اللبناني، وأوصلتنا الى هذه الحالة الكارثية على مختلف المستويات».
وتابع: «هناك مثلث جهنمي ثلاثي الأضلاع» يتكوّن من السلطة الفاسدة، وحاكم مصرف لبنان والمتواطئين معه والداعمين له من الداخل والخارج، وجمعية المصارف التي استفادت كثيراً طيلة الفترات الماضية من السياسيات الاقتصادية والمالية الريعية المُعتمدة والهندسات المالية المشكوك فيها. والمؤسف أنّ هذه الزمرة استطاعت الإفلات من أية محاسبة في ظلّ حماية الطبقة السياسية».
وأضاف: «أنّ المخاطر الكارثية للوضع الصحي والاستشفائي الذي وصلت إليه البلاد في ظلّ الارتفاع غير المسبوق في أسعار صرف الدولار وتهاوي قيمة الليرة اللبنانية وانخفاض القدرة الشرائية لمختلف شرائح المجتمع اللبناني وازدياد نسبة البطالة ولجوء عدد كبير من المؤسسات الصناعية والتجارية والسياحية وغيرها إلى صرف موظفيها، إضافة الى أزمة كورونا التي بدأت منذ حوالي عشرة أشهر عوامل مجتمعة ساهمت في تفاقم الأزمة الاقتصادية وزيادة حالة التخبّط والضياع، بحيث بات همّ تأمين الدواء وانتشال القطاع الصحي من هذا الوضع الكارثي على رأس أولويات المواطن اللبناني، في ظلّ الاتجاه نحو رفع الدعم عن السلع الأساسية قريباً، و «التبشير» بحصول كارثة وطنية على جميع المستويات».
وأردف: «استغرب لجوء بعض الخبراء الاقتصاديين إلى التصفيق لبعض الحلول الاقتصادية والمالية المشبوهة ومن ضمنها رهن أو بيع مرافق وأملاك الدولة اللبنانية وقسم من احتياطي الذهب والاستفادة من العائدات التي يمكن أن ينتجها، وأخيرا إنشاء صندوق سيادي تصبّ فيه «أثمان» ممتلكات الدولة وقطاعاتها المربحة، بعد الترويج، في الداخل والخارج، لتسويقها وللاستثمار في هذا الصندوق رغم علامات الاستفهام العديدة حول نزاهة وحياد إدارة هذا الصندوق. مما تقدّم من المهمّ أن يبدي الخبراء المشاركون في اللقاء ملاحظاتهم ورؤيتهم للخروج من هذا المأزق».
وختم: «أتوجه بالسؤال إلى مدّعي الخبرة في المال والاقتصاد، لماذا لم تتناولوا أبداً في مقترحاتكم موضوع استرجاع الأموال المنهوبة وما تمّ تحويله منها إلى الخارج بطريقة غير شرعية وتوقيت مشبوه، قبل وبعد إغلاق المصارف مع بداية حراك ١٧ تشرين الأوّل؟
انّ هذه الندوة هي باكورة نشاطات الملتقى من ضمن برنامج عمل سوف يشمل تنظيم نشاطات مُماثلة تُناقش خلالها مختلف أوجه الأزمة السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والتربوية والصحية، وذلك استكمالاً لجولة المشاورات التي جرت مع نقابات المهن الحرة في بيروت وطرابلس ومع الاتحاد العمالي العام والعديد من القوى الفاعلة والمؤثرة في الحراك توصلاً إلى خارطة طريق إنقاذيه تلتقي عليها مُعظم القوى الحيّة والمُؤثّرة في سبيل خلاص لبنان».
أبو شرف: أزمة الأطباء لا تنفصل عن الأزمة المصرفية
بدوره، تناول نقيب الأطباء البروفسور شرف أبو شرف تداعيات الأزمة الاقتصادية وانعكاساتها على عمل الأطباء، مشيراً إلى ما يواجهونه من صعوبات تهدّد لقمة عيشهم ورفاه حياتهم منذ عقود لجهة عدم فصل أتعابهم والتأخر في الحصول عليها من الهيئات الضامنة الرسمية والخاصة، والإجحاف بحقهم لناحية عدم ربط مُستحقّاتهم بمؤشر غلاء المعيشة، وعدم تقاضيها بسعر الدولار الفعلي المتداول في السوق، مما يحمل البعض منهم على تقاضي فروقات. هذا فضلاً عن عدم وجود ضمان صحي للطبيب بعد التقاعد، والاعتداءات وأعمال العنف التي يتعرّضون لها خلال قيامهم بواجبهم المهني.
أضاف: «قدّمت النقابة مشروع قانون لتأمين الحصانة والحماية للطبيب، ولكنه لم يبصر النور حتى اليوم، انّ عدد الأطباء البالغ 15.000 طبيب بمعدل طبيب لكلّ 250 مواطن، وهذا يفوق حاجة لبنان، أضف الى ذلك عدم صدور المراسيم التطبيقية لقانون «إذن مزاولة المهنة والتخصّص» العائد للعام 2013، والذي يحدّ من عدد الأطباء ويحافظ على مستوى الأداء المهني. وقد تمّ وضع مختلف هذه المسائل على طاولة البحث مؤخراً بانتظار الموافقة عليها والبدء بتنفيذها».
وتابع: «إنّ تفاقم أزمة الأطباء مرتبط بالأزمة المصرفية العامة وانهيار سعر صرف الليرة، بحيث باتوا غير قادرين، كما غيرهم من المواطنين، على التصرّف بمدّخراتهم مما دفع الكثير منهم للتفكير بالهجرة. هذا فضلاً عما أدّت إليه جائحة كورونا وظروف الحجر وإغلاق البلاد وحالة التعبئة العامة من انخفاض المداخيل وهبوط كبير في عدد المرضى الذين أصبحوا يخافون مراجعة الأطباء. وأخيراً جاء انفجار مرفأ بيروت وتحطّم عدد كبير من المستشفيات والعيادات والمؤسسات والمنازل لكي تُضاعف كلها من خطورة الأوضاع الاقتصادية على الأطباء وعلى كافة طبقات المجتمع».
وختاماً، شدّد أبو شرف على أنّ الحلّ سياسي بامتياز شرط الإتيان بمن يتمتعون بالكفاءة والنزاهة ومتابعة أدائهم عن طريق المراقبة والمحاسبة، داعياً إلى دعم القطاع الاستشفائي والتمريضي والطبّي والسعي بكلّ الوسائل لدعم صناعة الدواء في لبنان، خاصة انّ الإمكانيات والجودة والكفاءة متوافرة، مؤكداً حاجة بلدنا لبنان إلى جهود جميع أبنائه وتعاونهم للحفاظ عليه ولكي يعود مستشفى الشرق كما كان في السابق.
هارون: الأزمة الخانقة سببها الأول العجز الكبير في السيولة
وركزّ النقيب سليمان هارون في مداخلته على أنّ الوضع كارثي وقال: «إنّ السبب الأوّل للوصول الى هذه الأزمة الخانقة هو العجز الكبير في السيولة الذي تعاني منه المستشفيات الخاصة، والتي لها ديون ومستحقات كبيرة مُتراكمة منذ سنوات على الجهات والمؤسسات الثمانية عشر الموجودة في لبنان، والتي امتنعت وستمتنع أكثر في المستقبل القريب عن دفع مستحقاتها ما عدا الضمان وتعاونية موظفي الدولة. أما العامل الثاني فيتمثّل في هجرة الطواقم الطبيّة والتمريضية التي وجدت نفسها أيضاً في ظروف معيشية صعبة للغاية ممّا دفعها للهجرة أو لترك العمل في المؤسسات الاستشفائية».
أضاف: «بعد كلّ عوامل الانهيار العديدة القائمة تفاقمت الأمور أكثر مع ظهور جائحة كورونا، التي قلّلت كثيراً من عدد المرضى، الذين لم يعودوا يلجأون للمستشفيات سوى في الحالات الطارئة او الحرجة جداً، نتيجة خوفهم من التقاط العدوى داخل المستشفيات وأيضاً نتيجة خوف أصحاب المستشفيات الخاصة من ان تتحوّل الى بؤر لنقل العدوى الى المرضى الآخرين والى الطواقم الطبية والإدارية. لكن المشكلة الأساسية كانت ناتجة عن التعاميم الصادرة عن مصرف لبنان بخصوص فتح الاعتمادات من أجل استيراد المسلتزمات الطبية والتي كانت حتى تاريخ اليوم تجري على اساس ٨٥٪ مدعوم من مصرف لبنان على السعر الرسمي ايّ ١٥١٥ ليرة لبنانية للدولار و ١٥ ٪ على أساس سعر الدولار في السوق السوداء، وهذا ما تسبّب بنقص كبير في كلّ المسلتزمات الضرورية جداً لمعظم العمليات الجراحية وعمليات القلب وغيرها. وتسبّب أيضاً بنقص كبير في الكثير من الأدوية المهمة والأساسية الغالية الكلفة. وقد أوقع ذلك المستشفيات في أزمة كبيرة ودفعها الى تقنين بعص العمليات، خاصة أنّ المرضى أصبحوا غير قادرين على تغطية فرق الكلفة الإضافية المُترتّبة على سعر هذه المستلزمات».
وأردف: «انّ القرار الأخير الذي أخذه مصرف لبنان بالطلب من الشركات التي تستورد هذه المسلتزمات بدفع ٨٥ ٪ من قيمة فتح الاعتمادات بالليرة اللبنانية ووضعها في المصارف سلفاً دفع الشركات الى أن تطلب من المستشفيات ان تدفع لها فواتيرها في الحال ودون ايّ انتظار (cash money) مباشرة بعد تسليم المستلزمات. وهذا القرار كان المسمار الأخير الذي دقّ في نعش استكمال المستشفيات لعملها بشكل طبيعي، اذ انها باتت غير قادرة على ذلك للأسباب الكثيرة التي شرحتها سابقاً».
الأمين: التلويح برفع الدعم عن الدواء أدّى الى هلع كبير
من جهته شدّد د. غسان الأمين نقيب الصيادلة في لبنان على أنّ أسباب الأزمة مُتشعّبة، شارحاً أهمّ أسباب شحّ الأدوية وانقطاع بعضها من الصيدليات، فقال: «إنّ الهلع الكبير والقلق من احتمال رفع الدعم، الذي أدّى إلى تهافت المرضى وخاصة ذوي الدخل المرتفع او حتى المتوسط على الصيدليات وتكديسهم لكمّيات كبيرة من الأدوية الغالية الثمن في منازلهم، ومنها أدوية القلب والسُكّري والدهنيات والأعصاب والروماتيزم وغيرها لتكفيهم لفترات تتراوح بين ٧ و ٨ أشهر. إضافة الى فقدان الاستقرار الاقتصادي وانعكاسه على ارتفاع سعر الدولار ممّا وتّر مختلف شرائح الشعب اللبناني ودفعه الى هكذا خطوات، ودفع بعض الصيادلة أيضاً الى بعض الاستنسابية في توزيع الأدوية وحصرها في بعض الصيدليات للزبائن القدامى او المُعتادين عليهم».
أضاف: «انّ التلويح بنيّة رفع الدعم عن الدواء ابتداءً من السنة المقبلة لعب دوراً أساسياً في حالة التخبّط التي يعيشها القطاع الصيدلاني في لبنان كما غيره من القطاعات. وأكدّ الأمين انّ الفرق بين سعر الدواء المدعوم من مصرف لبنان على سعر الدولار بـ ١٥١٥ ليرة لبنانية وسعره في السوق السوداء أدّى الى حصول عمليات تهريب كبيرة وملموسة ومؤكدة، إذ أنّ هناك أدوية لبنانية كثيرة تُهرّب وتُباع في صيدليات العراق وليبيا وسورية ومصر وغيرها. وهي من الأدوية الغالية الكلفة ومن الأصناف الأساسية (البراند (Brand drugs . وأضاف أنّ الآلية المعتمدة من مصرف لبنان للموافقة على فاتورة الاستيراد عقّدت الأمور كثيراً وقلّلت إلى حدّ كبير الكميات المُستوردة، وذلك نتيجة شحّ الدولار.
وكذلك فإنّ الإجراءات البيروقراطية المُعقدة في هذه العمليات دفعت العديد من الشركات الى الإقفال ودفعت عدداً كبيراً من الصيدليات الى الإقفال النهائي نتيجة انخفاض نسبة الأرباح وتدنّي مستوى الدخل والوضع المعيشي للصيدلي».
وتابع: «هناك عوامل عديدة تسبّبت في هذا السقوط المُدوّي للسياسة الدوائية عند أول اختبار، أهمّها افتقار لبنان لمصانع أدوية تدعم اقتصاده الوطني من خلال إدخال العملات الأجنبية مقارنة ببعض الدول التي يشبه وضعها الوضع اللبناني كالأردن مثلاً، والذي يُصدّر كميّات كبيرة من الأدوية، إضافة الى حالة شبه اكتفاء ذاتي من الأدوية المُصنّعة والمُستهلكة محلياً. وهذا عكس ما يجري في لبنان الذي يعتمد على استيراد معظم الأدوية الأساسية من الخارج والذي لا تأخذ فيه الصناعة المحلية دوراً محورياً في تأمين حاجات المواطنين، وإنّ اعتمادنا على دواء «البراند» الأغلى ثمناً ووضع العراقيل أمام دواء الجنريك الأقلّ ثمناً لعب دوراً كبيراً في تمادي هذه الأزمة مع الاشارة أيضاً، إلا أنّ بعض أدوية الجنريك هذه لها تقريباً ذات كلفة الأدوية البراند وهذا ما شكّل عقبة أساسية أمام وصفها واستعمالها على نطاق واسع».
وقد أنهى النقيب الأمين مداخلته بالدعوة إلى تأسيس المختبر المركزي لما له من دور هامّ في تشجيع استيراد الأدوية الجنريك والأدوية المُصنّعة وطنياً.
أبي ناصيف: عجز الضمان سببه تراكم ديوان الدولة
أما شوقي أبي ناصيف المدير المالي في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي استهلّ مداخلته بتوصيف المشكلة، فقال: «إنّ الأزمة كبيرة في لبنان وتطال الجميع وتشمل القطاع الصحي تحديداً، بما فيه كلّ المؤسسات الضامنة، والضمان الاجتماعي وصل الى أبواب الأزمة وله بذمة الدولة اللبنانية دين يبلغ 4000 مليار ليرة ومن المفروض أن تكون أنظمة الضمان الاجتماعي احتياطيات لتستخدمها خلال الأزمات، هذا ما لم يحصل بسبب تراكم العجز الحاصل في فرع المرض والامومة والسبب الرئيسي لهذا العجز هو عدم تسديد الدولة لمساهمتها في هذا الفرع التي من المفروض ان تساهم بنسبة ٢٥٪ من قيمة التقديمات بالإضافة الى مساهمتها في اشتراكات بعض الفئات مثل السائقين العموميين والمخاتير، ومؤخراً باشتراكات المضمونين المتقاعدين، هذه الديون تراكمت منذ ما قبل العام ٢٠٠٦ لتصبح ٤٠٠٠ مليار ليرة، التزامات الدولة هذه أقرّتها القوانين والمراسيم».
وقال: «إنّ التوازن المالي لفرع المرض والأمومة مبني على مبدأ توزيع الاشتراكات بين أصحاب العمل والمضمونين والدولة، وانّ شريك من الشركاء الثلاثة وهي الدولة، لم تحوّل ايّ ليرة للضمان الاجتماعي منذ ٥ سنوات رغم مطالبتنا المستمرة ولا نعرف سبب عدم الدفع ومتى يزول هذا السبب.
انّ أزمة الضمان تحديداً في فرع المرض والأمومة والأزمة ليست فقط مادية، فالضمان يعاني من مشاكل وصعوبات وتحديات كثيرة كما هو حال باقي المؤسسات العامة، ورغم هذه الصعوبات ما زال الضمان يقوم بواجباته بالإمكانيات المالية والبشرية المحدودة، فإذا أردنا ان نحاسب الضمان يجب ان نأخذ بعين الاعتبار الإمكانات التي لديه لا سيما البشرية منها، فالضمان يعمل اليوم بنصف الكادر البشري المطلوب، والمستخدمون يتقاعدون دون ايّ بديل وهذه الأزمة بدأت منذ العام ٢٠٠٥ لدى أخذ الاستقلالية الإدارية من الصندوق من خلال ربط التوظيف بمجلس الخدمة المدنية وموافقة مجلس الوزراء ومؤخراً اتخذت الدولة قرار عدم التوظيف لمدة خمس سنوات، النقص بالموارد البشرية يشمل كافة الوظائف، لا سيما المعنيين بتأمين الخدمات للمضمونين مما ادّى الى تراكم المعاملات، كذلك الأمر النقص في العناصر البشرية للأجهزة الرقابية كالتفتيش المالي والإداري والتفتيش على الموسسات والمراقبين على المستشفيات والأطباء المراقبين وغيرهم، فعدد الموظفين حالياً هو بحدود الـ٩٠٠ من أصل ٢٠٠٠، في الـ 40 مكتباً الموزعة على الأراضي اللبنانية، طبعاً لا يحتاج الصندوق لـ ٢٠٠٠ مستخدم في حال تمّ الانتقال الى الربط الالكتروني مع الصيدليات والمستشفيات، إنما أيضا ٩٠٠ مستخدم ليس بالعدد الكافي لتقديم الخدمات بالشكل المطلوب، وانّ توزيع المكاتب على المحافظات والأقضية والمناطق البعيدة عن العاصمة ما زال يشكل ضرورة لخدمة المضمونين وتجنّبهم مشقة الانتقال من المناطق البعيدة الى بيروت او مراكز المحافظات».
أضاف: «في حال لم تُسدّد الدولة مستحقاتها فسوف يكون الضمان في وضع صعب ولن يستطيع الاستمرار في تقديمات المرض والأمومة عندها سوف تحلّ الكارثة على الجميع فعجز ٤٠٠٠ مليار ليس بالأمر البسيط، بالاضافة الى اننا اليوم على باب كارثة جديدة تتمثّل في احتمالات رفع الدعم ونتائجه التي ستكون وخيمة على أسعار الأدوية وتكاليف العلاج… وهذه الكارثة سوف تشمل كلّ القطاع الصحي ومن ضمنها الضمان فتضاعف كلفة الفاتورة الصحية من أدوية وطبابة من شأنه ان يضاعف الكلفة مرتين وثلاثة، وقد يرتفع بنسبة 300%.
الحلّ يكون بتعاون الجميع للخروج من هذه الأزمة، ويبدأ مع الدولة التي عليها ان تفي بالتزاماتها تجاه الضمان، وإذا كانت هنالك ملاحظات على أداء الضمان، فنحن جاهزون للمساءلة من المراجع المختصة كديوان المحاسبة وسلطة الوصاية وغيرها من الأجهزة الرقابية المعنية بالتدقيق، فحساباتنا وقيودنا هي بتصرفهم ولا نخفي شيئاً عن احد، إنما رمي الاتهامات والأخبار غير الصحيحة جزافاً أمر غير جائز وغير مقبول ولا يجوز الحكم بالمطلق من دون وجود إثباتات وتحقيق، وإلا يكون تجنياً وظلماً لهذه المؤسسة التي تقدّم الحماية الاجتماعية والأمن الاجتماعي لثلث الشعب اللبناني. الاستمرار برمي الاتهامات دون دليل من شأنه ان يفقد ثقة المواطن وصاحب العمل بها وهذا أمر خطير وله انعكاسات مالية كبيرة. لذلك يجب التوقف عن تداول هكذا أخبار ووقف هذه الحملات» .
وختم: «يجب الفصل بين المشاكل التي يعاني منها الصندوق وموضوع امتناع الدولة عن تسديد التزاماتها تجاهه، فجزء من هذه المشاكل بل الجزء الأكبر منها سببه تعاطي الدولة مع الضمان الاجتماعي انْ كان على الصعيد المالي او الإداري، لذلك على الجميع التعاون للخروج من الأزمة، وهذا يتطلب رؤية اقتصادية واجتماعية شاملة واستراتيجية واضحة على كافة الصعد، السياسية والاقتصادية والاجتماعية».
سعد: الحلّ هو بالنهوض في الإنتاج وصناعة الدواء مثالاً
الخبير الإقتصادي د. طالب سعد انطلق من واقع القطاع الصحي والمؤسسات الضامنة السيئة وانسحاب ذلك على كلّ القطاعات بما فيها القطاع المصرفي الذي كان يعتبره الناس أنه الأفضل، وقال: «إنّ الحلّ والمرتجى اليوم هو من خلال إدارة سياسية منتجة تعتمد على سياسات اقتصادية منتجة بأدوات نقدية ومالية تُمكّننا من خلالها تمويل السياسة الاجتماعية التي تشمل الصحة والتعليم وضمان الشيخوخة، وبرأيي إنّ تكرار واستمرار المشكلة في لبنان مستمرّ ووارد طالما الجهل يحكم الإدارة السياسية. لذلك أدعو إلى إعتماد المعرفة بالعلاج الإقتصادي السليم والتوجّه نحو النهوض بالإنتاج ومنها صناعة الدواء على سبيل المثال، والعمل على تخفيض تكلفة الإنتاج وتعزيز المنافسة وطرح مسالة القوة الشرائية كميزان أساسي للنمو مؤكداً أنها تحدي الإدارة السياسية…»
أضاف: «لا أوافق على حصر الموضوع برفع مصرف لبنان الدعم او استمراره وصرخة قطاع الدواء وربما المحروقات غداً وبعده الطحين. واستغرب حصر خوف مصرف لبنان من نفاذ الاحتياطي الإلزامي مما يدعوني للتساؤل عن أساس وبقية المبالغ المودعة في المصارف التي تبخرت والتي هي أيضاً من أموال الناس والمتبقي منها بحسب أقوال الحاكم هي بين 17 و 18 مليار».
وذكّر بأزمة انهيار سعر الصرف الليرة خلال الثمانينات: «أننا اليوم أمام فرصة أهمّ حيث أنّ الفرق بين اليوم والثمانينات هو الثقة التي كان يتمتع بها القطاع المصرفي يومها والتي فقدها اليوم، والتي لو كانت ما زالت قائمة اليوم لكنا أمام حالة تضخّم هائلة جداً بالرغم من أننا نسير على طريق ال hyper inflation مع حالة من الركود الاقتصادي لتشكل ما يسمّى بالركود التضخميstagflation «
وتساءل سعد أين هم «الخبراء الاقتصاديون» الذين كانوا يخبروننا انّ الوضع بلبنان مُمتاز ويبدون آراء إيجابية بشأن وضع القطاع المصرفي «الرائع»، وإذ بنا فجأة أمام الانهيار. لافتاً إلى أنّ التحدي اليوم يتمثل في كيفية الخروج من هذه الأزمة، ورأى إمكانية لذلك شرط توفر إرادة سياسية صحيحة ومعرفة علمية، لأننا أمام فرصة ذهبية والأزمة قد تتكرّر. وأضاف: «أنّ أزمة لبنان لم تسقط من كوكب آخر وأنّ دولاً عديدة مرت بشبيه لها مثل ألمانيا وأزمتي الولايات المتحدة عام 2008 وقبلها العام 1929 وأزمة الاكوادور والأرجنتين، وفي تبويب للسلطات أرى أنها تاريخيا، ثلاثة: أولها السلطة المالية تليها السلطة الدينية والسلطة السياسية. وأنّ هذه العناصر مُتداخلة في لبنان، بحيث ترى السلطة السياسية تستنجد بالسلطة الدينية خلال الأزمات وينتج عنها اتفاق جديد».
وبالعودة إلى المشروع الاقتصادي الذي يجب التركيز عليه أكدّ سعد أنه يكمن في تحسين القوة الشرائية للمواطن. مطالباً بتطبيق مفهوم «ضريبة الدخل السلبي Negative income tax rate»، بمعنى أن تقدّم الدولة الدعم لتحسين قدرة المواطن الشرائية. ودعا الدولة لمباشرة تطبيق هذا التدبير.
شيخاني: الأزمة سياسية والحلّ بضخ الدولار ودعم الليرة كضمانة
أما الدكتور نقولا شيخاني فقد انطلق مما أشار إليه د. حمود لناحية القول بأنّ منشأ الأزمة سياسي وبأنها ترتبط بأداء مصرف لبنان والمصارف، وقال: «أنا مصرفي منذ 28 عاماً وجئت لقول الحقيقة وليس للتمييز بين من كان على حق أو غير حق. والسؤال الأساسي هو إلى أيّ لبنان نحن متجهون؟ والإجابة بكلّ صراحة أنّ لبنان مُتجّه نحو كارثة وأنّ ما نراه اليوم هو بلد مفلس ومسروق، و»ما في مصاري». ولكي تتأكدوا انظروا إلى الضمان والمستشفيات والصيادلة، لدينا بطالة بنسبة 60% وهذا أمر خطير، الكلّ سرق ونهب دون حساب، انظروا لغيرنا من الدول، حالتنا الاقتصادية أسوأ من فنزويلا التي لديها أزمة واحدة فيما نحن لدينا أربعة».
أضاف: «انطلاقاً من كلّ الذي نشهده أسأل ما الذي سيحصل إذا ما رفع حاكم مصرف لبنان الدعم وأين ستصبح أسعار أبسط الأدوية والسلع، التي سوف تتضاعف تسارعاً جنونياً مع ارتفاع سعر الصرف وما مصير راتب العامل او الموظف وحتى الطبيب ولو زاد مدخوله، كلّ ذلك سيكون تأثيره سلبياً على الاستيراد، بمعنى أننا أمام احتمال وقف الاستيراد وفقدان السلع».
واردف: «أنّ التفكير بالحلّ كان يجب أن يبدأ منذ سنة ونصف، والمعنيون كانوا على علم بمن فيهم حاكم مصرف لبنان وبالطبع جميع المصارف. وأنا أؤيد ما ذهب إليه نقيب الصيادلة ما عدا انخفاض سعر الصرف مع تشكيل الحكومة، وهذا الانخفاض في سعر الصرف اليوم هو بفعل تعميم لمصرف لبنان وليس نتيجة لترشيح الحريري نفسه».
وختم: «أنّ الحلّ يكون في ضخ ثمانية مليارات دولار في الاقتصاد، ورفض المسّ بالذهب. والدعوة إلى خلق او تأسيس «مجلس النقد «currency Board « كما فعلت بلغاريا والأرجنتين ونجحتا في ذلك، لتجنّب التضخّم بمستوياته المرتفعة التي تحدث عنها د. سعد، لأنّ ذلك يمنع خروج الدولار من البلد واعتماد الليرة كضمانة ويتعزّز ذلك مع تصدير الأدوية وغيرها من المنتجات المُصنّعة في لبنان إلى الخارج، فتعتدل الأمور مع الوقت ويتمّ التخلي تدريجياً عن الـ .Capital Control »
ضاهر: التفكير بالهزيمة هو بداية الهزيمة
وختمت الندوة بمداخلة للعميد المتقاعد الدكتور فضل ضاهر مؤكدا أنه لا يؤيد الجوّ التشاؤمي السائد في البلد وعند معظم الخبراء، وقال: «أخالف أصحاب الآراء المتشائمة وأدعو إلى قلب الصورة ولنذكر جميعنا المثل القائل بأنّ التفكير بالهزيمة هو بداية الهزيمة. من هذا المنطلق لا أوافق د. شيخاني في قوله بالإفلاس، وبرأيي أنّ الإفلاس هو على مستوى المسؤولين «مفلسي الضمير»، لاعتبارهم الشعب مجرد أرقام. وألتقي مع د. حمود في كلمته».
أضاف: «علينا ان نميّز بين المعوقات السياسية والمعوقات الإنسانية والتوقف عن التذاكي على الشعب والاستخفاف به، فمن المُفترض أنه صاحب السلطة بالمبدأ، وأدعو الى إعادة الأموال التي دفعت دون وجه حق بنتيجة الهندسات المالية. وهنا أشير الى ما ورد في قانون النقد والتسليف بالنسبة للهندسات المالية للمصارف المُتعثرة ووجوب إجراء تحقيق إفرادي خاص حول هذا التعثّر».
وطالب شيخاني بإرجاع 5،7 مليار دولار إذا كان ذلك صحيحاً وكانت هناك حاكمية ومحاسبة ومساءلة. دون نسيان المليارات الستة التي تمّ تهريبها خلال أيام إقفال المصارف والتي تحدّث عنها مدير عام المالية السابق ألان بيفاني. وقال: «سمعنا من مسؤولين سياسيين واقتصاديين ومصرفيين أنه أمر مشروع طالما أنها أموال لا شبهة عليها. بيّد اني رأيت تناقضاً في كلام الحاكم لهذه الناحية عندما هزّ عصاه لمن يتخلف عن إرجاع نسبة من أمواله، لا سيما أنها بالقانون أموال مشبوهة ومنهوبة ويفترض ان تسترجع».
وختم: «وجب التذكير بالمادة 156 من قانون النقد والتسليف التي توجب على المصارف ان تُراعي في استعمال الأموال التي تتلقاها من الجمهور القواعد التي تُؤمّن صيانة حقوقه، وأن توفّق بين مُدّة توظيفاتها وطبيعة مواردها».