اردوغان «يُمرحل» تراجعاته لأسباب تركية وخارجية؟
} د. وفيق ابراهيم
تتمتع الدولة التركية بخبرات عميقة في المناورات وأساليب التكتيك لتاريخية تأسيسها كدولة متواصلة تعود إلى تسعة قرون تقريباً شكلت في معظمها دور قوّة كونية عظمى.
هذا ما يجعل الرئيس التركي أردوغان يقدّم انسحاب قواته العسكرية من منطقة “مورك” السورية على أنه إعادة انتشار جرى تنسيقها مع الروس.
بينما تشير مختلف التحليلات العسكرية الغربية والسورية، إلى أنّ هذا الانسحاب من أكبر قاعدة يحتلها الجيش التركي شمال غرب سورية منذ 2018 يعكس بداية الهزيمة المتدحرجة لأردوغان في كامل ما يحتله من مناطق في سورية.
وهذا يحمل في مضمونه تداعيات في العراق وليبيا وشرقي المتوسط.
لا بدّ هنا من الإشارة الى انّ الدور التركي التوسعي في المشرق وشرقي المتوسط لا يعود لقوة الدولة التركية فقط، بل يرتبط بجملة أسباب أوّلها الاحتلال الأميركي للعراق وانهيار دولته، وانتشاره الاحتلالي أيضاً في شرقي الفرات مع رعايته لمنظمات إرهابية تعمل في خدمته بشكل غير مباشر.
كذلك فإنّ الدور التركي في ليبيا اخترقها بعد انهيار دولتها وصعود الصراع الدولي عليها، هذا بالإضافة الى انّ الدور التركي في اليمن هو بالتحالف مع حزب الإصلاح التابع لفدرالية الاخوان المسلمين.
كما انّ الصراع على الغاز في شرقي المتوسط بين تركيا من جهة وقبرص واليونان وفرنسا من جهة مقابلة يشكل موافقة أميركية ضمنية يعمل بموجبها أردوغان في طريقة تجعل الأميركيين يمسكون بكامل الغاز في المتوسط كآلية للاستخدام في وجه روسيا البلد الأول في إنتاج الغاز في العالم، فالأميركيون في نهاية الأمر يمسكون بالطرفين المتخاصمين في شرقي المتوسط وما يهمّهم هو إبعاد الروس عن وليمة الغاز.
يتبيّن انّ موقع “مورك” هو مقدّمة الانهيار في الانفلاش التركي الكبير في الإقليم الذي لا مثيل له إلا في مرحلة انتشار الامبراطورية العثمانية بعد انتصارها على المماليك في معركة مرج دابق في 1516، هذه المعركة التي شرعت لها احتلال الشرق وشمال أفريقيا بسهولة فائقة، لأنها قدّمت نفسها جزءاً من الفتوحات الإسلامية القديمة.
وتحاول اليوم إعادة التجربة مرة أخرى عبر تقديم انفلاشها كحركة إسلامية جديدة.
لذلك تبدو “مورك” مثيلاً لمرج دابق إنما بشكل معاكس على مستوى النتائج، فـ “مورك” هي مقدّمة لانسحابات تركية متلاحقة من 12 قاعدة للجيش التركي في إدلب يحاصرها منذ آب 2019 الجيش السوري، ويتولى الروس تزويد هؤلاء المحاصرين بالطعام.
فلماذا لا ينسحب أردوغان مرة واحدة من المناطق السورية التي يحتلها جيشه في إدلب؟
هناك أسباب لها علاقة بالجانب المعنوي وتداعياته على الداخل التركي، مقابل أهداف أخرى ترتبط بمحاولات كسب تأييد روسي له في مناطق أخرى، لتأخير تراجعاته في عفرين والمناطق الحدودية المحتلة وذلك بإيقاع تدريجي يجعله يبدو وكأنه قرار تركي وليس نتيجة هزيمة عسكرية او تغيير في موازنات القوى.
لذلك لا يريد أردوغان أن يظهر بشكل المهزوم أمام الشعب التركي، لأنه يخسر بذلك انتخابياً ويتراجع حزبه العدالة والتنمية أمام التيارات القومية الطورانية والأحزاب العرقية واليسارية.
هناك عوامل إضافية وهي أنّ أردوغان لا يزال يراهن على الأميركيين، خصوصاً في الارتباط بين وضعهم في شمال شرقي سورية عند خطوط النفط السوري وبين بقاء قواته في شمالي غربي سورية، ويراهن ايضاً على المصلحة الأميركية في الاحتفاظ باثنتي عشر قاعدة لجيشها في العراق وبين قوات تركية تحتلّ قسماً من شمالي العراق، ويعتقد أيضاً انّ دوره في ليبيا وشرقي المتوسط واليمن، قابل للتعويم مع استمرار المواقف الأميركية الإيجابية منه.
والدليل انّ السياسة اليونانية وجّهت سؤالاً الى حلف الناتو عن كيفية قبوله بهجوم عليها وعلى شريكتها قبرص من دولة عضو في الناتو هي تركيا؟ فهل التوسّع التركي وظيفة اميركية للأتراك تسهم في المحافظة على الفوضى في الشرق الأوسط؟
وهل لها علاقة بالتشكيل الجديد للقطبية العالمية، تعمل الاختراقات التركية في الشرق الأوسط على دعم الدور الأميركي العالمي، وتأمين تنسيق ممكن له مع الروس على حساب الصعود الصيني والتمكن الإقليمي الإيراني.
انّ العودة الى الخطابات الأردوغانية التي أعلنت في 2019 أنها لن تنسحب من منطقة “مورك” أبداً ولا من أيّ نقطة أخرى تكشف مدى لجوء السياسات الأردوغانية الى أساليب المناورات والتكتيك للتغطية على الهزائم.
لكن سقوط العاومل التي يستند إليها الجيش التركي في احتلالاته في سورية والعراق وشرقي المتوسط من إرهاب يلفظ أنفاسه، وجيوبوليتيك أميركي يتجه للقبول بتقاسم رباعي للعالم على أنقاض انهيار أحاديته القطبية، وانتصارات الجيش السوري، وشعور الروس انّ تركيا بدأت باستهدافها في أكثر من موقع في الشرق والمتوسط وليبيا والقوقاز.
انّ كلّ هذه الأمور هي عناصر تدفع نحو رفع الغطاء الروسي عن سياسات أردوغان، وإذا كانت الأوضاع الداخلية في العراق تساند استمرار الاحتلال التركي لبعض أراضيه الى حين، فإنّ وضعه في سورية يؤشر الى بدايات انسحابه انطلاقاً من “مورك” الى منطقة الحدود مع سورية في الشمال.