ذهب النمسا.. يتكّلم عربي (د. اشراقة مصطفى حامد)!
} طلال مرتضى
ابي الطاعن في سرّ الحكايات اوصاني وانا في مطالع الحليب، قال: يا ولدي عليك ان تشتري في كل بلد بيتاً. ضحكت ملء قلبي وقتها وقلت: من اين لي ونحن نعيش في منزل موجر.. حين قامت قيامة البلاد وتشتتنا في جهات الارض كلها، لتوّي عرفت مرامي مقولة الرجل، قلت: صدقت يا ابتي.
في فيينا المدينة الغارقة في ماء نهرها (الدانوب) والملتفة حول روحها (حي.. حي) كالاساور التي تلتف حول معصم انثى غاوية كاملة الدوال، لا يتوه الزائر العربي في شوارعها الفارهة.. يعرف كل الادباء العرب، شعراء وكتاباً وفنانين طريقهم الى حيث هم مدعوون.. وكذلك الذين تقطّعت بهم سبل الحكايات ووصلوا الى هنا منكسرين وعلى وجوههم علامات التعب ومهانة الطريق وانتكاسات البلاد التي لفظتهم من تحت جلدها ليصيروا يباباً تعصف به ريح الجهات حيث اللامعلوم..
ثمة امراة سمراء كانت تنتظرهم في محطات القطار وتتناوب مع رفاقهم لالتقاط كل عابري سبيل الضياع..
امراة.. لا تشبه في سمرتها الا تراب الارض التي اوصيت بناتي اللواتي خرجن عنوة من ملاذهن المن تحت سطوة السيوف التي لمعت على ابواب بيتنا، تنادي: الحرية.. الحرية باسم الله، ان يدفنًّ باقي جسدي فيه..
امراة.. لا تنظر الى الوراء وهي سائرة.. همها الاول والاخير ما سياتي، واما ما مضى فهو ماضٍ صار في محطات الذكرى..
ذات مرة قررت ان ارسم تفاصيلها بحكم معرفتي وقربي منها، وحين انتهيت وجدت انني قد رسمت جسراً.. جسراً حقيقياً.. كتلك الجسور التي عبرتها ذات زيارة الى بودابست العاصمة المجريّة، لم يخطر ببالي ان عاصمة المجر هي من بلدتين يقسم بينهما بالتساوي نهر الدانوب (بودا و بشت)..
تلك المراة رسمتها تشبه جسور بودابست بالشكل، لكنها بالحجم اكبر بكثير.. اكبر مما تتصوره قصص العبور..
هل تتخيّلون كيف ان يكون الانسان جسراً يربط بين شرق الارض ومغربها؟..
الدكتورة اشراقة مصطفى حامد السودانية هي ذلك الشريان الذي كنتُ احاول جاهداً توصيفه على الرغم من ارتباك أصابعي وتلعثم لغة الكلام، حين احاول استجلاء غبار العطاء عن مسيرتها المشرقة..
امراة من ماء وحبر.. كاملة وكامنة، وكما يطلق عليها ركاب قطار الادب، ابنة الانهار في كناية للنيل والدانوب..
الالقاب كثيرة والمسمّيات اكثر.. لكن كل هذا يتلاشى عند سطوة الذهب.
تقديراً لعطائها ومسيرتها المشرفة وعملها لدى المنظمات الدوليّة الفاعلة (حقوق الانسان والمراة بوجه التحديد) والاديبة التي قدّمتها، من خلال ترجمة تلك الكتب من العربية الى الالمانية وبالعكس حيث اثرت المكتبة هنا..
وحيث إنها ممثلة للادب العربي في منظمة القلم النمساوي ( PEN) لم تترك نافذة هواء الا ودفعت اليها بمبدع عربي وصل فيينا على انكسار..
جلّ اهل هذه البلاد منشغلون في احوالهم، لا يتدخلون في ما لا يعنيهم بالمطلق، لكنهم يراقبون ويراقبون بكثب ويستطيعون قراءة الوجوه عن ظهر قلب، لذلك لم نتفاجا نحن ابناء الجالية العربية حين عرفنا بان النمسا قررت منح الدكتورة اشراقة الميدالية الذهبية تقديراً لدورها الفاعل في البلاد..
كان من المقرّر ان نحتفل بهذا التشريف منذ شهور عدة باحتفائية كبيرة تليق بالدكتورة اشراقة وبالجائزة، لكن كورونا كانت في المرصاد..
اليوم والذي صادف 21 أكتوبر 2020 تمت دعوتنا وفي عدد محدود إلى مقر برلمان فيينا لحضور تتويج بطلتنا العربية السودانية بالذهب..
نظراً لطقس كورونا اختصرت مراسم الاحتفالية على عائلة الدكتورة اشراقة وعدد من المقربين من رفاق الحبر والعمر..
رسمياً حضر سفير جمهورية السودان وكذلك النائب العربي في برلمان فيينا السيد عمر الراوي وعدد من ممثلي المنظمات الإنسانية والحقوقية، ورئيس البيت العربي النمساوي للثقافة والفنون واعضاء من ملتقى التواصل العربي النمساوي وغيرهم.
والجدير بالذكر ان هذه الجائزة التقديرية تعد من اعلى جوائز الدولة في النمسا.
القيت في الفعالية كلمات عدة، الجهة المانحة وكذلك كلمة عن المنظمات النسائية وفي كلمة الختام كلمة الدكتورة اشراقة والتي ساوجزها لكم بكلمتين قالتهما لامراة طاعنة في السن وصلت قبل الجميع على كرسي مدولب: شكراً امي.
*فيينا.