هل أسقط أردوغان سياساته التنسيقيّة مع الروس والإيرانيّين؟
} د.وفيق إبراهيم
اقتربت سياسات تركيا التوسعية من إصابة مصالح روسيا وإيران في أكثر من مدى. وتتوجّه الى التسبب بأذى داخلي لهما في علاقتيهما ببعض أقلياتها الدينية والقومية.
هذا يؤدي فوراً الى تصدّع التنسيق المعتمد بين البلدان الثلاثة انطلاقاً من ميادين سورية. وهو تنسيق كان يتطوّر لإدارة الازمة السورية دافعاً نحو ايجاد حلول عميقة لها.
بذلك يضع الرئيس التركي أردوغان بلاده في مواجهات قوية مع روسيا وإيران، ليس في الساحة السورية فقط، بل يتمدّد حكماً نحو ناغورني قره باغ بين ارمينيا واذربيجان وقد يتطور نحو آسيا الوسطى والقوقاز وأذربيجان الايرانية.
فهناك من يعتقد ان الاتراك يعملون لإعادة احياء الدولة العثمانية وذلك عبر اثارة العصبية التركمانية في الجزء الإيراني من اذربيجان واذربيجان المستقلة وذوي الأصول العثمانية التركية، في القوقاز ودول آسيا الوسطى وبعض جمهوريات الداخل الروسي، وأقلية الايغور الصينية، هذا دون نسيان بعض السوريين والعراقيين والليبيين من اصول تركمانية ايضاً.
فيبدو ان السياسة التركية الحالية تبذل جهوداً واسعة لتعبئة تراجعات النفوذ الاميركي وتسعى لحيازة دور أكبر مما تؤديه عادة الدول الاقليمية.
فهل نسي أردوغان أن للأميركيين والحلف الاطلسي قواعد عسكرية ونووية في بلاده؟ وهذه ليست من صفات الدول العظمى؟ وهل نسي ايضاً ان روسيا دولة عظمى يفصله عنها البحر الأسود، وايران دولة اقليمية لديها تحالفات عميقة في الشرق الاوسط والعالم الاسلامي؟
كان بإمكان الروسي والإيرانيين الاكتفاء بأسلوب المناوشات لو بقي الجشع التركي عند حدود البلاغة الخطابية العثمانية، لكنه اصبح يمتلك دوراً عسكرياً واسعاً في ناغورني قره باغ وأذربيجان «باكو» وآليات ثقافية واسعة مع اعلام دقيق يتوجه لاستثارة التركمان في اذربيجان الايرانية وآسيا الوسطى وبعض جمهوريات روسيا، متوجهاً اليها بما يشبه الدعوة الى التحرر من الاحتلالين الروسي والايراني، كما تقول الدعاية العثمانية.
ان هذا الانسداد في العلاقات بين روسيا وايران وتركيا، ظهر بوضوح في حركتين متتابعتين: الاولى القصف الجوي الروسي بالتنسيق مع الجيش السوري على موقع لفيلق الشام في منطقة الدويلة في ريف إدلب السورية المحتلة قتل ثمانين إرهابياً وجرح المئات.
والمعروف هنا أن الجيش التركي يحتل هذه المنطقة ويعتبر منظمة فيلق الشام الارهابية حركة عثمانية اخوانية صرفة تلعب دور إسناد للسياسات التركية من سورية الى ناغورني قره باغ وصولاً الى باكو اذربيجان.
هناك اذاً علاقات بنيوية بين السياسات التركية وفيلق الشام بما يكشف ان قصفه من قبل روسيا هو رسالة روسية علنية للسياسات العثمانية التركية، بضرورة تنفيسها لمرض التاريخ والرؤوس الحامية والعودة الى الالتزام بموازين القوى.
ماذا عن الحركة الثانية؟
تتسم السياسة الايرانية مع تركيا بمبدأ الواقعية السياسية الذي يعتبر الجوار الجغرافي بينهما ضرورة لمنطق الممكن من التسويات انطلاقاً من ان إيران مستهدفة من الاميركيين وحدودها البحرية مع الخليج والاحتلال الاميركي للعراق، الامر الذي يشجعها على تحسين العلاقات مع الاتراك، هذا ما يحدث في سورية من جهة وبتعاملها المتشابه مع الأقليات الكردية في المنطقة. يكفي ان حدود البلدين لم تشهد أي توتر او صدام منذ نصف قرن تقريباً.
هذا لا يعني وجود حالة تحالفية بينهما، وانما ضرورات تنسيقية جغرافية من جهة ولوجود مكونات قومية متقاربة في البلدين، فإذا كان الاتراك يراهنون على توتير الاوضاع العرقية في اذربيجان الإيرانية ذات الجذور التركمانية فهناك نحو 15 مليون علوي تركي مع أعداد من الشيعة بالإمكان الاعتماد عليهم للجم العثمانية الطورانية.
هناك اذاً مشروع تركي لتصديع ايران وآسيا الوسطى عبر تحريك العصبيات التركمانية فيها، ما أدى الى تحريك قطعات عسكرية إيرانية نحو الحدود مع باكو اذربيجان بما يشبه إنذاراً أخيراً للأتراك وأقلياتهم التركية بأن الجمهورية الاسلامية لن تتردد من اللجوء الى الأسلوب العسكري لوقف محاولات تغير الخريطة السياسية للقوقاز وآسيا الوسطى وناغورني قره باغ.
كان هناك تعويل تركي على انتماء باكو اذربيجان التركمانية الى المذهب الشيعي بشكل يفرض على طهران تأييدها او الصمت في أسوأ الاحتمالات.
لكن إيران الخبيرة في الاساليب العثمانية استوعبت الموقف بسرعة وقرأته على انه محاولة لتجديد دولة بني عثمان على اساس العصبية التركمانية. وهذا يؤذي الجمهورية الاسلامية في تعدديتها القومية ودورها السياسي الإقليمي.
وهذا ما استشعر به الروس الذين لاحظوا ميلاً تركياً لدفع باكو أذربيجان الى خرق كل وقف لإطلاق النار مع الأرمن مع مواصلة الحرب وسط خطاب تركي عنصري، يحاول تصوير المعركة أنها بين تركمان وأرمن من جهة وبين مسيحيين ومسلمين من جهة ثانية.
لذلك يحاول أردوغان تقديم بلاده على انها نصيرة الإسلام في وجه الرئيس الفرنسي ماكرون الذي أساء إليه واي محاولة اخرى.
هناك انعكاس سريع مرتقب للتدهور بين الروس والإيرانيين وبين الأتراك في ميادين سورية. وهذا يهدّد التنسيق القائم بينهم والمستمر منذ أربع سنوات تقريباً.
فهل سقط هذا التنسيق الثلاثي أو أنه في الطريق التدريجي اليه؟
لم يعد لدى الاتراك إلا العودة الى اتفاق آستانا وإلغاء الورم التاريخي الذي ينتابهم على قاعدة الانسحاب من إدلب مع منظماتهم الارهابية، او الاستمرار في أساليب المراوغة وهذه تدفع بدورها نحو دور روسي حربي عميق مع الجيش العربي السوري ينفذ خطة القضاء التدريجية على كامل المنظمات الإرهابية من إدلب وعفرين.
يبدو أن الاتراك يترقبون عودة أميركية بعد الانتخابات الرئاسية تدعمهم في سياساتهم التركمانية، اما اذا لم تتم هذه العودة فإن تركيا في طريقها للتراجع عن مشاريعها في القوقاز واذربيجان على اساس الاكتفاء فقط بمطامعها في البحر المتوسط والسعي الى اقتطاع ادوار عبر الروس في سورية والاميركيين في العراق.