العودة المرتقبة…
ميس يونس
بعد خمسة عشر عاماً قررَ العودة إلى مدينته التي ما غابت يوماً عن أحلامه، عاش في غربته يوفّر راتبه ودراسته ويخطط ويرسم على الورق لمعمل الكونسروة الذي سوف يؤمن العمل لأبناء قريته وبعض القرى المجاورة، وبالتالي يسهم ولو بجزءٍ يسير في رفع كفة الميزان التجاري لبلده.
كان شاباً حالماً طموحاً، خطواته ثابتة ومدروسة لا تأتي من دون تخطيط مسبق، فكل أحلامه وتصوراته كانت مبنية على أسس رياضية دقيقة وعلى هذا كان واثقاً من نجاح أحلامه وتأسيس حياته التي طالما انتظرها في عيون تواقة لنيلها.
ها هو ذا يضع حقائبه المحملة بالهدايا والأمل لبدء بناء الحجر الأساس في دياره الحبيبة، وبالرغم من مضايقات الروتين والبيروقراطية التي ما إن حط الترحال حتى لاحقته لم يكترث أو يبدي أي انزعاج منها بل سار كأنه لم يسمع شيئاً قط.
بعد مضيِ اسبوعين على مجيئه وبعد أن أخذ قسطاً كافياً من الراحة في منزله القديم، قرّر الذهاب لقريته وتفقد ما إن كان مجال هناك لإقامة مصنع الخضار في أرضه التي تقع تحت الوادي قرب القرية، حيث كانت مساحتها كافية وموقعها مناسباً من جهة عدم أذيتها لباقي الهكتارات في حال بُني المصنع هناك.
كان كلٌّ شيء يسير كما خُططَ له فهو رجلٌ عملي ما قررَ شيئاً إلا وكانَ سليما ومُسيراً.
وبعد استكمال الأوراق المطلوبة والرخص لإقامة المصنع، وبعد الكم الكبير والكثير من التهليلات له من قبل مختار القرية ورئيس البلدية، قرر زيارة أهالي قريته ليبشرهم أنَّ أحوالهم المادية ستتغير رأساً على عقب، ولكن بالرغم من تخطيطه الدقيق والمنظم لكل شيء درسه ورسمه كانت الصدمة هنا، حيث لم يرَ الوجوه السميحة التي كان يراها قبل غربته، فهناك شيء ما قتل في عيون أبناء قريته، لم يعد الأمل موجوداً، لم تعد البساطة حاضرة في حياتهم، لم تعد الأفئدة كما تركها، فقد ماتَت الحياة التي كانت حاضرة في مخيلته طوال فترة سفره. وهنا كانت صدمته، فقد صعقه خبر عدم قبول أهالي القرية العمل معه في المصنع! فلمن يعملون؟ لأراضيهم التي احترق معظمها بسبب تجار الفحم وإهمال مسؤولي الدولة؟
لمن يعملون وكلُّ أبنائهم استشهدوا في الحرب أو شُردوا بين لاجئين وموتى خارج الوطن؟ لمن يعملون وحتى ضحكات أحفادهم وصراخهم في الشوارع وهم يلعبون كانت قد اختفت تماماً؟ لمن يعملون وقبل أن يعملوا يجب على مَن يحاول مساعدتهم أن يعاود بناء الإنسان بعد الحرب!
لم يكن يتوقع أن يرى كل هذا الأسى وكان بعد أن رأى هذه الوجوه التعبة قد أصابه إحباط لم يصبه من قبل حتى وهو يُطحَن كالرحى في أوروبا.
ظلَ على حالهِ هذا قرابة الشهر، ربما أصابتهُ عدوى اليأس كباقي أفراد قريته ومدينته ووطنه، وفي ليلةٍ قمراء قرر أن يعودَ أدراجه إلى منفاه الذي أُجبر على العودة إليه ناطقاً «لا أمل للحياة هنا». وتُركَ الوطن وحيداً مع سارقيه للمرة الألف!