التطبيع في التفاوض اللبناني
ناصر قنديل
– يستمر البعض على طريق اللبن الأسود بالإصرار على توصيف مجرد التفاوض القائم بصيغته الراهنة لترسيم الحدود نوعاً من التطبيع، فيقطع الطريق على المطلوب فعلياً لمنع التطبيع عبر مراقبة التفاصيل التي يمكن أن تشكل رسائل تطبيعية مرفوضة يجب فتح العين عليها، من خلال التمييز بين تفاوض لا يتضمن تطبيعاً وتفاوض يفتح باب التطبيع.
– التلطي وراء البيان الذي أعلن بموجبه اتفاق الإطار والإصرار على تقديمه كنص لبناني يلغي صفة العداء لكيان الاحتلال، يعبر عن سذاجة وعناد سخيف وقد صار معلوماً ان النص هو نص اتفاق متعدّد الاطراف يستحيل ان يكتب بلغة الفريق اللبناني وقد تمّت الصياغة برعاية الأميركيين، كما حصل تماماً مع نص تفاهم نيسان وبمفرداته ذاتها التي يتجاهلها المنتقدون.
– المهم أن لا يترتب على العدمية واللغة العبثية تضييع الطاسة فيصير الرأي العام محايداً في النقاش حول ما يمكن أن يتسلل عبر التفاوض من أخطاء او سلوك متعمد يقع في دائرة التطبيع، فيصير أي كلام ترويجي للتطبيع او أي تصرف تقني او إداري يمكن ان يوحي بسلوك تطبيعي تفصيلا يضيع في مناخ التشكيك والخلط بين الوقائع ومقاربتها.
– نقطة الانطلاق في النقاش العلمي هي التسليم بأن التطبيع والاعتراف هما نيات سياسية وسلوك إعلامي لا يتحققان بإعلان إنكارهما، وأن الإنكار بذاته عندما يصير نصاً رسمياً وقراراً دبلوماسياً ويتحوّل الى شرط تم تثبيته في اطار التفاوض، يشكل أعلى المستويات القانونية لرفض التطبيع وعدم الاعتراف، فالقيمة القانونية للموقف اللبناني تتأتى من ذاته بالإعلان الرسمي عن التمسك بتفاوض غير مباشر سواء في غرف منفصلة او في غرفة واحدة من دون مصافحة ومن دون تخاطب مباشر مع وفد الكيان، وهذا ليس أمراً شكلياً، لأن تثبيت هذه القاعدة بموافقة الراعي الأممي والوسيط الأميركي وارتضاء وفد الكيان للتفاوض وفق هذه الضوابط، يعني تسليماً بقبول تفاوض مع طرف متمسك بعدم الاعتراف ورفض العلاقات الطبيعية كأساس للتفاوض. وهذا ما يتجاهله العدميون والعبثيون وفقاً للمفاهيم القانونية للتفاوض وللتطبيع وللاعتراف.
– أن يصدر في اتفاق الإطار نص على أن التفاوض غير المباشر هو الذي سيكون، هو إنجاز لبناني قانوني كبير تمّ تضييعه في معمعة الاتهامات والبروباغندا الرائجة، لأن التطبيع والاعتراف هما عمل سياسي وإعلامي لا يخدمهما نص يقوم على تثبيت رموز تؤكد نقيضهما، والخطر هو في تضييع هذه القيمة والقول إن كله تطبيع وكله اعتراف فينتقل التفاوض غير المباشر الى تفاوض مباشر.
– في اتفاق الهدنة وقع لبنان على هدنة طرفها الآخر جيش الاحتلال وتضمنت التزامات متبادلة، لكن الأهم فيها كان تأكيد المفاوض اللبناني وتضمين تأكيده في النص، أن خط الحدود سيبقى الحدود الدولية للبنان إذا اختلف عن خط الهدنة، أي ان خط الهدنة لا ينشئ حقوقاً تمس بالحقوق التي تثبتها الحدود الدولية للبنان.
– في اتفاق الإطار تبقى أهم فقرة هي تلك التي تؤكد ان التفاوض غير المباشر هو المعتمد لما تختزنه هذه الجملة من معانٍ تبطل مفعول أي إيحاء او ثقافة تطبيعية وتقطع الطريق على اعتبار قبول التفاوض نوعاً من الاعتراف.
– بعض الكلام الساذج الهادف للتنمر يسأل لماذا لا يكون التفاوض مع السلطة الفلسطينية وهو يعلم أن السلطة قامت وتقوم على قاعدة الاعتراف بكيان الاحتلال وتسلّم له بشرعية سيطرته على الأراضي المحتلة عام 48 التي يدور التفاوض اللبناني حول نقاط تتصل بها.
– مثل هذا الكلام الساذج والعبثي كلام آخر عن اعتبار الترسيم بذاته إعلاناً لحدود آمنة لكيان الاحتلال، وهو نص خطير يجب الانتباه لعدم تضمينه في نهاية التفاوض لعمليات الترسيم، لأن الترسيم يجب أن يبقى بالنسبة للبنان هادفاً ومحكوماً بالسعي لتظهير الحدود الدولية البحرية للبنان وإيداعها كخرائط ومحاضر لدى الأمم المتحدة، وليس السعي لإنهاء التفاوض بمعاهدة دولية ولو سميت بمعاهدة ترسيم حدود، وهذا هو الفارق الذي يجب أن يبقى الرأي العام مستنفراً لمتابعته وتدعيم موقف المفاوض اللبناني المتمسك بهذا الفارق. وخطورة العبثية والعدمية أنها تسقط الاستنفار السياسي والإعلامي الواجب حضوره لمراقبة أي دفع نحو تخطي هذا الفارق، واعتبار الأمر سيان، فيكون العدميّون قد أسهموا بتثبيت مفهوم الحدود الآمنة لكيان الاحتلال لأنهم يرفضون التوقف أمام التفاصيل ذات القيمة، ويعتبرون الأمر سيان.
– بعض السذاجة ترد في تنمّر مشابه يقول لماذا لا يذهب لبنان بدلاً من التفاوض إلى التحكيم الدولي القانوني او الى محكمة العدل الدولية في لاهاي، فيرسمون لدى الرأي العام أسئلة تشكل غباراً فكرياً وقانونياً، والواجب معرفته هنا هو أن اول شروط التحكيم والتقاضي وفقاً للقواعد المعمول بها في غرف التحكيم وفي محكمة العدل الدولية، هو الاعتراف المتبادل بين الدول المتخاصمة صاحبة طلب التحكيم او التقاضي.
– الأهم أن لا يختلط الحابل بالنابل في هذا النقاش المطلوب وطنياً، وأن لا يضيع كون لبنان انتزع موافقة نادرة في زمن التطبيع على تفاوض غير مباشر، وأن لا يضيع أن لبنان انتزع موافقة معاكسة لكل الحركة الأميركية في المنطقة، القائمة على محاصرة المقاومة وسلاحها، فالتفاوض غير المباشر يجيء في ظل التسليم بأن هذه المقاومة حاضرة هي وسلاحها في خلفيته، كشريك رادع هو الذي فرض التفاوض، بينما كانت رغبة كيان الاحتلال وضع اليد على الثروات اللبنانية وفقاً للخرائط المزورة التي أقرها وقرر اعتمادها، لولا تهديدات المقاومة التي غيرت معادلات قانونية واقتصادية، جعلت الاستثمار مشروطاً بالتفاوض، وفقاً للشروط اللبنانية.
– بعض السخافة والتفاهة هي في الهدايا المجانية اللبنانية لكيان الاحتلال الآتي من موقع ضعف، ليحتفل بوهم قوة، مستعيداً كلاماً لبنانياً من هنا وهناك عن رغبة بالسلام وعدم رفض للتطبيع.