مقالات وآراء

الشوكولا المُضمَّخ
 بالدم والدَّمع

} السيد سامي خضرا

قُيِّض لي أن أسافر إلى أفريقيا عدة مرات، حيث مكثتُ أياماً أو أسابيع.

وكانت لي محطة طويلة في أبيدجان عاصمة ساحل العاج حيث تعرّفت على الكثير من هوية هذا البلد وشعبه الطيِّب، والتي من بينها أنه من أكبر مُنتجي الكاكاو في العالم.

وكنا عندما نزور أحداً في بعض مناطق العاصمة خاصةً في الليل نَشتَم رائحة الكاكاو النَفَّاذة التي تنتشر في منطقةٍ واسعة حيثُ تكثُر معامل التصنيع بطرق خاصة تمهيداً للتصدير إلى الخارج.

وعندما عُرضتْ عليَّ ثمرة الكاكاو لأول مرة وطُلِبَ مني معرفة ما نوعية هذه الثمرة لم أكن على دِرايةٍ بها ولم يخطر على بالي أصلاً أن تكون هي ثمرة الكاكاو التي يُصنَع بها الشوكولا المحبوب والمطلوب عالمياً

فقد كانت الثمرةُ ضخمة وشكلها يُشبه الشمّام الصغير وبالكاد أن تحويها الكفّ وعندما شَقَقْتُها وجدتُها بيضاء مائلة إلى السُّمرة ولُزوجتها واضحة وطعمها غير مُستَساغ وتكمن البذور في داخلها.

لذا عندما قيل لي إنّ الثمرة يُستخرج منها الشوكولا المشهور عالمياً والغالي الثمن استغربت الأمر تماماً فليس هناك شَبَه بين الثمرة وبين ما يُنْتج منها لا شكلاً ولا لوناً ولا طعماً!

كانت الثمرةُ غريبةً في حجمها ولونها ولُزوجتها وطعمها لكنني نسيت كلّ ذلك بعد ما علمتُ أشياء أُخَر!

فبعد اهتمامي بمتابعة خصوصيات البلد واقتصاده وفي مقدّمها هذه الثمرة فُوجئت أنّ الكثير مِمَن تعرّفتُ عليهم يعملون في جمع هذه البضاعة وتهيئتها لنقلها إلى دول أوروبية معروفة بتصنيعها هذا المُنتَج الذي تهوي إليه القلوب.

وعَلمتُ لاحقاً أنّ أكثر العاملين في هذا الحقل هم من اليافعين الذين يُحسَبون بحسب قوانين الأمم المتحدة أنهم أطفال فأعمارهم تبدأ من عمر اثني عشرة سنة!

كما عَلمتُ أنّ بعضهم ولشدَّة فقره يأتي من القُرى البعيدة إلى المزارع ويعمل لسنوات مقابل قوت يومه!

وعَلمت أنه بعد هذه الفترة الطويلة يأخذ هذا الطفل أجراً يومياً لا يستأهل أن أذكره في مقالي هذا لغرابته، على الرغم من الأعمال الشَّاقة التي يقوم به!

وعَلمت أيضا أنّ من جملة مَهَامِّ هؤلاء الأطفال أن يرُشُّوا المبيدات القاتلة والتي صُنِّفت بحسب منظمة الصحة العالمية بأنها خطرة وسرطانية إضافة إلى أنها مضرّة للبيئة بحيث بعد عدة سنوات تُحْدث تصَحُّراً في الأراضي المزروعة وتلوُّثا في التربة

فيرشونها على الحشائش لتسهيل عملهم ولرفع الإنتاج والجودة الأفضل من هذه الشجرة!

وعَلمت أنّ أمراضاً مُزمنة تُصيب هؤلاء العاملين الصِّغار بعد أن يصبحُوا في سنّ الشباب نتيجة أعمالهم الشاقَّة لكي يَتَعَيَّشُوا ويُؤَمِّنوا شيئاً من طعامهم.

وعندما تُنقَلُ المنتوجات إلى مصانع أوروبا وتصبح كما نعرفها كأفخم ما يكون من حيث الإنتاج والمحتويات والأشكال ومئات الأنواع والأصناف من خلال مؤسسات متخصصة وشركات عابرة للقارات ومؤتمرات عالمية تُعقَد كلّ عام للتطوير والدعاية والتسويقنعلم في ما بعد أنّ هذا المنتوج من المستحيل أن يرجع إلى أفريقيا ليتذوَّقه الذين ساهموا في زراعته وقطفه وتصنيعه الأوَّلي لأنّ ثمن المنتج الواحد أو القطعة الواحدة منه تُساوي مدخوله لأيام وأكثر حتى لا نقول الكيلو الغرام الواحد يساوي أسابيع من عملهم الشَّاقفيعجز عن مجرد التفكير في شرائه!

فلن يأكلوا منه ولن يشمُّوا رائحته ولن يروا شكله!

إنها صورةٌ مُوجزة ومُختصرة عن الآلام التي يُسبّبها الطغاة الكبار والعالم الأول الذي يمدحه الكلّ على أنه عالم مُتَحَضِّر!

إنها ببساطة صورة الشوكولا الممزوجة بدماءٍ ودموعٍ وعَرَق وجوع وسهر واضطهاد والدَّوس على الكرامة!

هذا نموذج عن «إنجازات» ورفاهية الدول الكبرى التي تعلمنا كلّ يوم حقوق الإنسان وتنصحنا بالديمقراطية!

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى