المقاومة فعل ثقافة وانتماء في «جدليّات المقاومة في الاجتماع اللبنانيّ» لمحمد شقير
د. خديجة شهاب*
يقوم الوطن على أسس وركائز عديدة، أهمّها المؤسسات والإدارات، البيت والمدرسة إذ تمثّل في مجموعها الحماية والانتماء. و»يندرج الوطن تحت توصيفات نفسيّة مختلفة وعلاقات متداخلة بين الأشياء والأمكنة والإنسان، تختلف بحسب طبيعة تلك العلاقات» (1) هو الامتداد الّذي تتواصل فيه الحياة، فيشعر الإنسان إذّاك بالانتماء والحاجة إليه، لأنّه ضرورة حيّة لأمّته.
إنّ الانتماء للوطن والمواطنة، ليست مفاهيم مجرّدة، وإنّما هي خبرة معاشة بين الوطن والمواطن، فهو – أي المواطن – عندما يشعر من خلال خيراته أنّ وطنه يؤمّن له الحماية، ويدافع عن وجوده، ويحقق له الرعاية في ظلّ جوّ يسوده العدل، تترسخ لديه قِيم الانتماء والولاء وحبّ الوطن. وقد نصّ البند(أ)، من المادة الأولى من الميثاق العربيّ لحقوق الإنسان، على: «أنّه لكافة الشّعوب الحقّ في تقرير المصير»، في هذا السياق حين يتعرّض الوطن لأي عدوان أو احتلال، علينا أن نمتشق الهِمم والسواعد للمدافعة عنه.
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ الكتاب موضوع القراءة، هو مجموعة مقالات نُشرت في الصّحف اللبنانيّة بين العامين 2005 – 2020 وأعاد المؤلف تبويبها بين دفتيْ كتاب لتسهل الإفادة منها.
نقاوم لا نقاوم؛ نقاوم لا نقاوم… هذه الجملة ليست أُحجية نريد أن نفكّ لغزها، وليست فعلًا نمارسه أو ننقطع عن ممارسته ساعة نشاء، ولكن الظروف هي التي تفرضه، والقوانين الدّولية هي التي تعترف به لكل شّعوب العالم المقهورة والمغتصَبة أوطانها، وعليه؛ فإنّ «مشروع المقاومة هو مشروع قِيميّ، أخلاقيّ، إنسانيّ، دينيّ، إسلاميّ، يمكن أن تلتقي عليه وفيه مجمل الأديان، المذاهب، والقوميّات، والمدارس الفكريّة»(2) كلّ ذلك شرط أن يؤْمن أبناء الوطن بضرورة المقاومة، وأن تتوحّد رؤيتهم إلى العدو.
يرى الكاتب أنّ التّجربة اللبنانية المقاوِمة، «أثبتت أنّ القوة التي تدير هذا السّلاح حكمةً عالية في استخدامه، وحرصًا كبيرًا على استعماله لحماية كلّ الوطن وكل اللبنانيين»، وأنّ هذا السّلاح لم ينشأ إلا بعد أن استقوى الإسرائيلي بسلاحه على أرضنا وأهلنا وناسنا.
سقطت مع المقاومة مقولة «قوة لبنان في ضعفه» إذ يريدونه ضعيفًا على المستوى العسكريّ، من جيش وقوات مسلّحة ٍوقوى أمن ليعطوه فُتات أسلحة بنصف عمرٍ – إن جاز التّعبير – أو منتهية الصّلاحية ليتحكّموا به، يقصفونه بين الفينة والأخرى، يُقدّمون له المال والمساعدات، وعلى اللبنانييين أن يشكروهم على عطاياهم السّخيّة.
بحسب الباحث؛ أصبحتْ قوّة لبنان مع المقاومة في قوّته، تلك القوّة المستمدّة من المقاومة، وقد أكّدت، الأيام، أنّها قادرة على الرّدع في ظل تسليح الجيش بالسّلاح الجيد والمناسب لهذه المواجهة. غيّرت المقاومة المعادلة التي كانت سائدة من أنّ جيش العدو هو الجيش الّذي لا يُقهر، وأنّها – أيّ المقاومة – حقّ لكل ّ شعوب العالم التي تعاني من الظّلم والاستبداد الّذي قام في أساسه على اغتصاب الأراضي للحصول على مقدراتها ومقدّرات البلاد المجاورة وثرواتها الطّبيعيّة.
في بحثٍ آخر، يسلّط الكاتب الضوء على تاريخ لبنان وما مرّ عليه من احتلالات متعدّدة، وفي كلّ مرحلة كانت تنشأ المقاومة لدحر الاحتلال، فيسأل ما الّذي اختلف هذه المرّة، كي لا يقف اللبنانيون جميعهم صفًّا واحدًا في وجه المحتلّ الغاصب؟ إذ أكّدت تجارب المقاومة كلّها، أنّ الاتحاد يمنح الوطن القوّة والمناعة، فيتخلّص تاليًا من الاحتلال الّذي أنهكه اقتصاديًّا وثقافيًّا، فكريًّا وسياسيًّا. ما يعني أنّ توحيد الرؤية إلى العدو أمر ضروري، إذ إنّ الأمر هنا لا يحتمل التجزئة.
يتناول صاحب الكتاب، الباحث «محمد شقير»، الأمور البديهيّة، ليشير إليها، ويدلّ من خلالها إلى أهميّة وحدة الرؤية والنظرة في المجتمع اللبناني، وكيف سينعكس ذلك استقرارًا وأمنًا وتماسكًا. ما يعني – بحسب وجهة نظره– أن تكون ثقافة المقاومة في صلب مناهجنا التّعليميّة، ليتعلّم أبناؤنا كيفية ممارسة المواطنة، وأهميّة الانتماء إلى الوطن، ما يسهّل علينا الكثير من أمور حياتنا، ويبعدها من التّعقيد الّذي نعيش في ظلّه أزمات متنوّعة لا حصر لها.
يتوسّع الباحث في توصيفه للمقاومة ليقول: «إنّه لا يوجد تنافٍ بين المقاومة السياسية والمقاومة العسكريّة»؛ وهي بالتالي على أنواع، وتخرج عن كونها لصيقة بالمصطلح العسكريّ، وتأخذ أشكالًا متعددة تكون سياسيّة اقتصاديّة». وفي سياق آخر، يذهب ليربط بين الدّول العربيّة التي تعاني المصير نفسه لتشملها عمليّة الدّفاع عن النّفس والأرض.
يركّز، في مبحث آخر، على أهميّة أن تثق الشعوب «بقدرتها وهويتها وثقافتها»؛ إذ سيسهم ذلك برسم مشهد الخوف الّذي يعانيه المجتمع الإسرائيليّ، إن توحّدت جهود المقاومة العربيّة والإسلاميّة وسيذيقونها ما أذاقتهم إيّاه منذ بداياتها، وستنعكس الآية فتضعف في المستويات كلّها، وتعود الهجرة المعاكسة أدراجها ليعود هؤلاء المستوطنون إلى بلادهم التي أتوا منها.
يربط الكاتب المقاومة بـ»لبنان» بشبكة علاقات المقاومة في المنطقة العربيّة ككلّ، ما يؤدي إلى تضافر الجهود والتّوجه عملًا وقولًا نحو تحرير فلسطين من ربقة الاحتلال الإسرائيليّ. وقد بيّنت، الأيام، أنّ السّلام معه هو سرابٌ، ولا بدّ من مقارعته تاليًا لاستعادة الأرض المسلوبة منذ ما يزيد على سبعين عامًا، واستعادة الإنسان الفلسطينيّ والعربيّ لكرامته وحقّه في العيش بأمان واطمئنان، والتّنعّم بخيرات أرضه، والاتكاء على كدّ يمينه وساعده، ككل إنسان على وجه هذه البسيطة، حيث إنّ الوطن المُغتصب لا يصلح مكانًا لإقامة آمنة لهم.
في هذا السّياق؛ فإنّ حرب أو عدوان تموز في العام 2006 التي شنّها العدو الإسرائيليّ على لبنان؛ والمواجهات التي خاضتها المقاومة لأكثر من شهر، غيّرت المعادلة في المنطقة برمّتها، وأعطت الثّقة لشّعوبها، من أنّها تستطيع أن تستلم دفّة القيادة، أضف إلى أنّها – أيّ المقاومة – كسرت صورة الجيش الّذي «لا يُهزم»، ليس لأنّ هذه المقولة صحيحة، والمحتل قويّ جدًا على المستوى الجسديّ والعسكريّ والعقائديّ، بل لأن الجيوش العربيّة تخاذلت عن الوقوف في وجهه، ولم تؤمن بضرورة تحرير الأرض، وبأهميّة أن يعيش الإنسان فيها حياة كريمة لائقة.
يطرح «شقير»، على بساط البحث، القضايا الدّاخليّة الرّاهنة التي يتداولها الناس، من تناقض بين منطق المقاومة ومنطق الدّولة، فيشير إلى أنّ ما يُطرح محض افتراء، إذ لو لم تتخلّ الدّولة في حقبة ما عن دورها العسكريّ في حماية حدود الوطن لما نشأت المقاومة، ولما أخذت على عاتقها هذا الدّور ما أدّى إلى «التكامل بين منطق الدّولة والمقاومة» التي لا تسعى لتحلّ محل الدّولة، وإنّما لتساندها فتقوى، وتدافع عن أمنها وأبنائها.
يعود الباحث إلى تاريخ لبنان الحديث، ويشير إلى الحرب الأهليّة التي بدأت في العام 1975، حين ضعفت البنية العسكريّة والاجتماعيّة للدولة، ما فتح شهيّة العدو على احتلال لبنان العام 1982، بعدما وجد الأرض خصبة له، وشعر بفائض القوّة لضمّ لبنان إلى فلسطين المحتلّة ليتوسع نفوذه في المنطقة، ولعلّه حسب أنّ لبنان سيكون نموذجًا فلسطينيَاً آخر، بمعنى أنّه سيتمكن من البقاء فيه إلى ما شاء الله، وأنّ الصّراع والمقاومة لن تتعدى أن تكون آنيّة أو مرحليّة.
لم يتطابق حساب الحقل مع حساب البيدر، وما غيّر مخططاته ومعدلاته في تلك الحقبة هو نشوء المقاومة، وقد أخذت على عاتقها تحرير الأرض. وما زاد في تعقيد الأمور بالنسبة إلى العدو الصهيونيّ هو ثبات المقاومة وصمودها في مقارعته، والإصرار على النجاح في طرده، وتتالت المفاجآت التي لم يكن يُحسَب لها حساب.
«إنّ المقاومة في لبنان إذ تعمل على استكمال بناء قوّتها، وتقوية إمكانياتها واستعداداتها وامتلاك سلاح رادع» للعدو. يشدّد في مكان آخر، على ضرورة أن تتكامل العلاقة بين الدّولة والمقاومة، ويمارس كلّ منهما دوره، وهو إذ يؤكد أنّ المقاومة لا تحيا كريمة مصانة إلا في ظلّ دولة تؤْمن بدورها في حركة التّحرّر، فتحفظها من كلّ سوء لتحفظ بدورها البلد من أيّ اعتداء، أو احتلال، ما يُشرّع الباب للحوار حول دور المقاومة بين المؤيدين والمعارضين. ولكنّه يشترط الحوار البنّاء، ويؤكد أنّ الاختلاف حول دورها يجب أن يُمارس بطريقة لا تسمح للعدو بالإفادة منه، ما قد يُضعف المنعة الوطنيّة، ويشجعه على الاعتداء عليه.
بحسب «شقير»، «إنّ إسرائيل بعد الهزيمتين، لم تكن قويّة، ما يشير إلى أنّ المشكلة دومًا لم تكن في قوّة إسرائيل، بل في ضعفنا نحن»، وهي لا تقوم في حروبها على عقيدة وقدرة، وإنّما قوتها كانت وهمًا أثبتته المقاومة في حربها معها، وما قوتها المزعومة تلك إلا ضعف منّا وتقاعسنا عن مواجهتها.
يربط الباحث بين الاعتقاد بعدالة القضيّة وأحقّيتها وبين البعدين القِيميّ والأخلاقي، فهو يقول: «لقد قامت إسرائيل على الاغتصاب والاحتلال… وهذا ما أشعر الكيان بأنّه يقفّ على أرض غير مستقرّة، وأنّه يقيم في محيط لا يتقّبله»؛ وما تلك الإخفاقات التي تحدث عنها العدو إلا كشفٍ عن أزمة بنيويّة عميقة، يعانيها العقل الإسرائيلي، كما أنّها أزمة الخواء الأخلاقيّ، ووهن الإرادة القوميّة والقلق الوجودي لهذا الكيان، بحسب تعبير «شقير». وهو إلى جانب ذلك، يناقش الحياد ويضع له ضوابطَ وأصولًا، يمكن أن نسير على أساسها كي نتمكّن من تطبيقه، وإلا فإنّه سيذهب باتجاه مغاير تمامًا لما تعنيه هذه الكلمة.
يناقش الباحث قضايا عديدة – لا يسعنا ذكرها هنا – بكل هدوء ومنطق، ويحللها تحليل الملتزم بقضايا الوطن، يتنقل في مواضيعه بين الدّاخل والخارج، ويرى أنّ المقاومة حقّ لكل شعوب العالم، وأنّ الحوار في ضوئها على قضايا الوطن سيغيّر حالنا في لبنان حتمًا إلى الأفضل.
ونصل معه إلى أنّ المقاومة فعل ثقافة يجب أن يتعلمه المواطن في المناهج الدّراسية، ويحصّله ممارسة من بيئته التي تربى فيها، ليستطيع في ما بعد أن يدافع عن أرضه، ويتشبث بها، ويعرف قيمة الوطن، فيذود عنه الأعداء. فمع المقاومة ننتمي إلى الوطن فلا نساوم على الأرض، ولا ننهزام أمام العدو، ولا نتراجع عن المسلّمات.
(1) خديجة،شهاب– حقوق الإنسان قي روايات عبد الرّحمن منيف– المؤسسة العربية للدّراسات والنّشر بيروت– لبنان– ط أولى– 2009م– ص. 105.-
(2) د. محمد شقير- جدليات المقاومة في الاجتماع اللبناني- أنزللطباعة والنشر – بيروت -لبنان- ط أولى – ص16-