الانتخابات الأميركيّة: قراءة خارج السياق
زياد حافظ*
تمّ إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية بقوز نائب الرئيس السابق جوزيف بايدن وسط انقسام شعبي كبير بين مؤيّد ومناهض للرئيس الأميركي دونالد ترامب. لن ندخل في السجال حول «شرعية» النتائج ومصداقية عملية الفرز، لكن بغضّ النظر عن ذلك السجال الذي له حيثياته ولكن لا يعنينا إلاّ بمقدار أنه يثبّت حالة الانقسام العميق في المجتمع الأميركي. فهناك حقائق عدّة أظهرتها الانتخابات الأميركية عن المشهد السياسي الداخلي الذي كنّا على مدى سنوات عديدة نرصده ونتوقع وصوله إلى الحال هذا. نعم، لم نفاجأ بما حصل بل توقعناه لأن ما حصل يعكس التحوّلات التي حصلت وما زالت داخل المجتمع الأميركي أو بشكل أدقّ داخل المجتمعات الأميركية. توقعنا أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أقوى مما كان يعتقده خصومه الداخليون والخارجيون ورغم شراسة الحملة الانتخابية وكما توقّعنا أنّ سجالاً قد يدور حول مصداقية عملية الفرز بسبب الانقسام الداخلي. فليس هناك أميركا واحدة بل على الأقلّ أميركتان إن لم تكن عدّة «أميركات» إذا جاز الكلام. فالانقسام الأميركي هو عموديّ وأفقي. والعوامل هي طبقية أولاً وإلا يريد الاعلام الأميركيّ الإقرار بذلك لسبب واضح، فهو مملوك من ست شركات فقط، أي هناك رأي واحد يُفرض على المواطن الأميركي، لذلك يتمّ تجاهل البعد الطبقي في المجتمعات الأميركية. العنصر الثاني هو العرق، والثالث هو الدين، والرابع هو الثقافة، والخامس هو الجغرافيا حيث سكّان المدن الكبيرة يختلفون عن سكّان المدن الوسطى والصغيرة والريف بشكل عام، والتي كنّا أشرنا إليها في السابق ولن نكرّرها هنا. لكن نعتقد أنه من المفيد استخلاص الحقائق التي أظهرتها الانتخابات الأميركيّة.
الحقيقة الأولى هو ترهّل النظام السياسي القائم في الولايات المتحدة المرتكز إلى نظام حزبين حاكمين يتداولان السلطة بين فترة وأخرى، وفقاً لمعطيات ظرفية ووفقا لدور بعض الفروقات في السياسة العامة الداخلية والخارجية. لكن الحزبين متفقان على رؤية واحدة لطبيعة النظام القائم والذي يحمي أوّلاً وأخيراً رأس المال ويسخّر القانون والسياسة وبالتالي العدل لمصلحة رأس المال. كما أن الحزبين يشتركان في رؤية واحدة حول استمرار الإمبراطورية وسياسة الهيمنة. لكن هذا النظام الذي تكوّن خلال قرنين من الزمن ضمن موازين سكّانية محدّدة وضمن موازين قوّة اقتصادية واجتماعية معيّنة، فهذا النظام لم يعد قادراً على استيعاب التحوّلات السكّانية التي حصلت والتي أشار إليها بوضوح صامويل هنتنغتون. فالأخير قال في آخر مؤلّف له قبل رحيله: «انسوا صراع الحضارات فما يهدّد الولايات المتحدة هو فقدان هويتها البيضاء الانكلوبروتستنتية» لصالح هويات أخرى كالهوية الهسبانية الكاثوليكية على سبيل المثال وربما هويات أخرى آسيوية.
وبالفعل، فإنّ التحوّلات السكانية تشير إلى أنّ معدّل النمو السكّاني في الولايات المتحدة أصبح دون المعدّل المطلوب للحفاظ على وجودها وبالتالي لا بد من فتح باب الهجرة. وملف الهجرة، الشرعيّة وغير الشرعية، ملفّ معقد ويحتاج إلى مقاربة منفصلة ولكنه في متن الخلاف بين الحزبين المتنافسين. فالحزب الجمهوري يريد تقنين الهجرة وفقاً لمعايير ليس هناك من إجماع أو اتفاق حولها، وبينما الحزب الديمقراطي الذي يريد فتح باب الهجرة لضمان أولاً يد عاملة رخيصة تضمن خفض الأجور وتدعم رأس المال ولاعتقاده بأن التنوّع العرقي يصبّ في مصلحة الحزب على الصعيد السياسي الانتخابي. لذلك أصبح الحزب الجمهوري حزب أكثرية بيضاء تعتبر حالها مهمّشة في مجتمع العولمة الذي روّجت له قيادات ليبرالية في الحزب الديمقراطي على مدى عقدين من الزمن بينما تحوّل الحزب الديمقراطي إلى حزب التنوّع العرقي والديني ولكن بقيادة ليبرالية معظمها بيضاء وليست بالضرورة على تماهي مع مستلزمات التنوّع.
من جهة أخرى لم يعد بقدرة الحزبين استيعاب التحوّلات الاقتصادية بسبب الجنوح نحو عولمة استفادت منها الشركات الكبرى والأوليغارشية المالية والتكنولوجية ولكن على حساب العامل الأميركي. فتراجع الوظائف في القطاعات الإنتاجية الأساسية والتحوّل نحو اقتصاد افتراضي ريعي مبني على المضاربات المالية والعقارية أدّى إلى انفصام بين الاقتصاد العيني ومسار الأسواق المالية. فالبورصة في ميل والبطالة في ميل آخر. والحزبان ساهما عبر العقود في ذلك التحوّل إلى أن وصل دونالد ترامب وحاول استرجاع الوظائف الصناعية التي صُدّرت إلى دول الجنوب بشكل عام. لكنه اصطدم بقوّة المصالح المرتبطة بالنموذج الاقتصادي النيوليبرالي الذي أدّى إلى تمركز المال والإعلام بيد شركات لا يزيد عددها عن أصابع اليد الواحدة. من هنا موجة الاستياء العام الذي نجح ترامب في استغلالها سنة 2016 وكاد ينجح في انتخابات 2020 لولا كورونا وسوء إدارته للجائحة التي أطاحت بفرص نجاحه لولايّة ثانية. لكن في المحصّلة ظهر تيّار شعبوي لا يمكن تجاهله ولا يستطيع الحزبان ضبطه ما ينذر إما بتشظّي الحزبين أو ظهور حزب ثالث شعبويّ يعكس الحالة الترامبية التي ظهرت خلال السنوات الأربع الماضية.
الخلل في النظام الحاكم ظهر مرّتين على التوالي: المرّة الأولى في الانتخابات الرئاسية سنة 2016 والثانية هذه السنة حيث الخيارات المفروضة على الناخب الأميركي كانت أن يختار بين من هو أقلّ سوءاً وليس من هو أفضل، وليس لمن له البرنامج السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يحاكي تطلّعات الأميركيين والتحوّلات التي حصلت خلال العقود الأربعة الماضية. ويتساءل المراقب لماذا وصل المشهد السياسي إلى هذا الحال والإجابة تكون في طبيعة النظام الذي يحكمه المال والمصالح الخاصة ولن يأتي إلاّ بمن يعلن الولاء الكامل له. فالأكثرية الساحقة من السياسيّين والعاملين في الشأن العام مدينة بمواقعها لمن موّلها وليس لمن انتخبها. وبطبيعة الحال تصبح «النخب» المنتخبة بهذه الطريقة في منتهى الرداءة كم نراه في الخط البياني المتدحرج منذ أكثر من أربعين سنة. فالرئيس يكون إما فاسداً أخلاقياً أو جاهلاً أو الاثنين معاً. و»النظيف» بينهم تكون رذائله مخفيًة أو تمّ التستّر عنها. فالإعلام المهيمن الشركاتي تجاهل بشكل متعمّد فساد المرشّح بايدن الذي أصبح «رئيساً» وركّز على فساد الرئيس الحالي. وكما يُقال في العامية أن الأخير «جسمه لبّيس». فضيحة موقع «الانترسبت» اليساري الهوى والمؤيّد لبايدن رفض نشر تحقيق حول فساد بايدن وعائلته. والرئيس الحالي جاء من خارج السياق المعتاد وبالتالي كانت ولايته حرب مستمرّة مع الدولة العميقة لأنه أراد أن يكسر الحلفة المفرغة. بالمقابل فالمرشّح بايدن، وقبله هيلاري كلنتون وباراك أوباما وجورج بوش الابن وبيل كلنتون، من رحم البيئة الفاسدة التي تنتج النخب الحاكمة في الولايات المتحدة. ويمكن القول عبر النتائج المعلنة إنّ الدولة العميقة انتصرت على ترامب ولكن الكلفة قد تكون باهظة للغاية.
الحقيقة الثانية هي خسارة هيبة الولايات المتحدة. فأحد المواقع الإلكترونيّة المؤيّدة لبايدن وصفت عملية الفرز الانتخابية بـ «المهزلة» التي أفقدت مصداقية وهيبة الولايات المتحدة التي فقدتها في رأينا منذ فترة، ولكن مسرحية الانتخابات كانت بمثابة الإعلان الرسمي عن سقوط أوهام مصداقية النظام القائم في الولايات المتحدة. وحتى الناطق غير الرسمي باسم العولمة والنيوليبرالية توماس فريدمان كتب أن «أميركا سقطت» في هذه الدورة من الانتخابات. وما يدور من شكوك، بل ربما أكثر من شكوك، حول «سرقة» الانتخابات (كما يقول بول كريغ روبرتس ومعه آخرون) سيساهم في تفاقم أزمة سياسيّة قد تنذر بنهاية الولايات المتحدة كما نعرفها وخلق كيان مختلف عما كان. فهناك معركة جديدة ستظهر في سبيل «شرعية» جديدة قد لا تحظى بإجماع الأميركيين وستزيد في تفاقم الانقسام.
هنا لا بدّ من بعض التوضيح. ما حصل بعد انتخابات 2016 سيتكرّر بعد 2020. الفريق الخاسر لن يقبل بنتائج الاقتراع. الحزب الديمقراطي بادر منذ اللحظات الأولى بعد انتخاب ترامب ومعه الإعلام المهيمن الشركاتي إلى العمل على إسقاط ترامب لأنه فوجئ بفوز ترامب. وإذا صدقت وعود ترامب فسيحاول الطعن بالنتائج في المحاكم الاتحادية والفئات المتشدّدة في قاعدته الانتخابية قد تعلن رفضها لتلك النتائج. هذا ما قصده فريدمان وهذا ما يجب الانتباه إليه أي العملية الديمقراطية أصبحت محطّة تشكيك. فما البديل؟
الحقيقة الثالثة هي ضرب مصداقية الإعلام المهيمن الشركاتي الذي قاد الحملة على ترامب عبر شركات الاستطلاع التي أوهمت العالم بفوز بايدن بفارق كبير وكأن النتائج محسومة مسبقاً قبل الاقتراع! جاءت النتائج الفعلية لتدحض تلك التوقّعات ولتؤكّد أن ترامب ليس ظاهرة عابرة بل انعكاس لمزاج أميركي خارج السياق التقليدي وله وزنه على الصعيد الشعبي. فالأصوات التي حصدها ترامب تجاوزت الأصوات التي حصلت عليها هيلاري كلنتون بمليونين ما يدلّ أن المؤيدين لترامب ليسوا فقط من الذين يرفضون هيلاري كلنتون. أثبتت الانتخابات أن المزاج الأميركي يختلف عمّا يصوّره الاعلام المهيمن الذي فقد مهنيته في تغطية الحملة وكان معبّراً عن رأي واحد فقط. وبغض النظر عن النتائج الرسمية فإنّ ترامب تحوّل من رئيس للولايات المتحدة إلى زعيم سياسي شعبي لما يُسمّى بأميركا الحمراء أيّ الولايات في الداخل التي أدلت بصوتها لصالحه. وذلك رغم العيوب الواضحة والفاضحة في كفاءته وسلوكه الشخصي الذي كان موضع سخرية وازدراء العديد من الأميركيين وغير الأميركيين. وقد يكون هذا التغيير مفصلياً في الحياة السياسية الأميركية حيث «الزعامة الشعبية» قد تكون في وجه «الشرعية الدستورية» وما يمكن أن ينتج عن ذلك من أزمة دستورية، إلى أزمة نظام، إلى أزمة كيان.
ومن ضمن إخفاقات استطلاعات الرأي العام هو عدم تحقيق «الموجة الزرقاء» التي كان من المفروض أن تجتاح الكونغرس. فالحزب الديمقراطي الذي كان يتوقّع ارتفاع أكثريته في مجلس النوّاب خسر مقاعد عدّة وقد يخسر أكثريته في الانتخابات النصفيّة المقبلة عام 2022، كما لم يستطع أن يحصل على الأكثرية في مجلس الشيوخ. شعبياً، خسر الحزب الديمقراطي الانتخابات وإن تمّ إعلان فوز بايدن بالرئاسة. فهذا «الفوز» مصداقيته مطعون بها شعبياً من قبل نصف الأميركيين تقريباً وقد يكون مطعوناً قضائياً. والانقسام السياسي قد يتعدّى حلبة المؤسسات الدستورية، أي الكونغرس، للحسم (العبثي) في الشارع. كل ذلك يعني أن حالة عدم استقرار أصبحت عنوان المرحلة الحالية والمقبلة في الولايات المتحدة. بالمقابل هناك مَن يعتبر أن الولايات المتحدة دولة مؤسسات وبعد موجة الغضب عند الفريق الخاسر ستعود الأمور إلى حالتها الطبيعية. هذه قراءة مبسّطة للمشهد الأميركي التي لا تأخذ بالتحوّلات التي ذكرناها أعلاه وسابقاً والتي تنذر بتلاشي التماسك الداخلي في إطار الشحّ الاقتصادي. فالحلم الأميركي الذي كان يصنع التماسك الداخلي قد سقط في محيط التناقضات والإخفاقات على الصعيد الداخلي والخارجي.
الحقيقة الرابعة هي الكثافة في الإقبال على التصويت من قبل المؤيّدين والمناهضين للرئيس الأميركي ما يدّل على عمق الانقسام القائم والذي أخذ طابع «كسر العظم». ليس من المؤكّد أن للرئيس المنتخب وفريقه قدرة على ردم الهوّة بين الفئتين من الشعب لأنه لا يملك خطابا وسياسة واضحة تستطيع محاكاة هواجس المواطنين. وإذا كان من المبكر إصدار الحكم فإن تاريخ الرجل وتاريخ نائب الرئيس المنتخب لا يوحي بأنهما يمتلكان رؤية للخروج من الأزمات البنيوية التي تواجه الأميركيين. فمن جائحة الكورونا إلى تداعياتها الاقتصادية، إلى قضايا الضمان الصحي، إلى ملف الهجرة والأمن الداخلي، إلى قضايا العنصرية، إلى قضايا المناخ، إلى إعادة تأهيل البنى التحتية المترهلة إلى قائمة طويلة من استحقاقات تمّ تجاهلها على مدى العقود الخمسة الماضية، أي منذ بداية السبعينيات، فكلّها تحتاج إلى رؤية شاملة. الخلاف بين القاعدة الشابة للحزب الديمقراطي والقيادة التي شاخت في الحزب يصعب ردمه. بالمقابل حالة الرفض للرؤية الديمقراطية لتلك الملفّات من قبل الناخبين الجمهوريين وخاصة في قضايا القيم والسلوك الاجتماعي لا توحي بأن هناك إمكانية في ردم الهاوية.
الحقيقة الخامسة هي أن جائحة كورونا أطاحت بالرئيس الأميركي. فلا ننسى أن في الانتخابات التمهيدية كان المرشح بايدن على وشك الخروج من حلبة الحملة الانتخابية وكان المتقدّم المرشّح برني سندرز. كما ان كمالا هاريس لم تحظ إلاّ بواحد بالمئة من أصوات الناخبين الديمقراطيين في الحملة الانتخابية ما يدلّ على أن انقلاباً ما حصل في مسار الانتخابات التمهيدية لإقصاء سندرز كما حصل سنة 2016 ولتعويم بايدن. استطاعت القيادة الديمقراطية بدعم كبير من باراك أوباما بقلب المعادلة الداخلية في الحزب الديمقراطي واستفادت من جائحة الكورونا التي أدّت إلى إيقاف عجلة الاقتصاد ومحو «الإنجازات» الاقتصادية التي كان يراهن عليها الرئيس الأميركي. فأصبح العنوان الانتخابي الاستفتاء حول شخص ترامب وسوء إدارته في مواجهة الجائحة. من هذه الزاوية سجّل الحزب الديمقراطي نجاحاً باهراً. لكن بالمقابل، هناك سكوت تام حول الملفّات الساخنة التي ستواجه الرئيس المنتخب والذي كان سبباً رئيسياً في إخفاق الحزب الديمقراطي في زيادة أكثريته في مجلس النوّاب وانتزاع الأكثرية في مجلس الشيوخ.
الحقيقة السادسة هي ظهور بوادر ضعف في الدولة العميقة. وهذه قد تكون مفاجأة للعديد من المراقبين. صحيح أنها انتصرت على ترامب لكن كلفة ذلك الانتصار قد يطيح بها. لم تستطع الدولة العميقة وما لديها من إمكانيات وتحالفها مع المجمع العسكري الصناعي والمالي والاوليغارشية التكنولوجية في التواصل والإعلام الشركاتي أن تحصل على أكثرية وازنة في المجتمع الأميركي. الأكثرية التي حصل عليها الرئيس المنتخب (أكثرية بالتدفيش إذا جاز الكلام) ليست أكثرية ثابتة وصلبة، هذا إذا ما تبيّن أن النتائج المعلنة صحيحة وغير قابلة للنقض. لكن هذه النتائج تكشف ضعف الخطاب السياسي الأميركي المهيمن الذي يعكس انقطاع النخب السياسية الحاكمة عن الواقع الفعلي.
الحقيقة السابعة واللافتة للنظر هي إخفاق المال المنفق في الانتخابات على تغيير مسار الأمور. حققت هذه الانتخابات أرقاماً قياسية في الإنفاق المالي والذي بلغ حسب التقديرات الأوّلية حوالي 14،5 مليار دولار، منها 6،5 مليار على الانتخابات الرئاسية والباقي على انتخابات الكونغرس الأميركي. ففي ولاية كارولينا الجنوبية على سبيل المثال أنفق الحزب الديمقراطي حوالي 100 مليون دولار لمرشّحها ضد الشيخ ليندساي غراهام وهو من الصقور في الحزب الجمهوري. لم يفلح المرشح الديمقراطي رغم ذلك الإنفاق القياسي في حملته الانتخابية. وكذلك الأمر بالنسبة لعدد من المقاعد. أما في ولاية فلوريدا أنفق مايكل بلومبرغ أكثر من 100 مليون دولار لهزيمة ترامب في الولاية التي ربحها ترامب في آخر المطاف. ومن المموّلين الكبار في الحملات الانتخابية أصحاب شركات التواصل الاجتماعي الذين أصبحوا «لاعبين» كبار في التمويل الانتخابي. لذلك على ما يبدو ففي المعارك المفصلية لا يكون المال العامل الفاصل كما كان في انتخابات سابقة التي لم تحظ بالأهمية التي شهدتها انتخابات 2020.
الحقيقة الثامنة هي بروز دور الصوت العربي والإسلامي في الانتخابات. كان ذلك الصوت بيضة القبّان في ولايتي ميشيغان ومينيسوتا المتأرجحة حيث قلب موازين القوّة لصالح نائب الرئيس بايدن. حصد الرئيس ترامب نتائج سياساته التمييزية ضد الجالية العربية والإسلامية. والفضل في تلك التعبئة يعود إلى الشابات في الحزب الديمقراطي وداخل الكونغرس الأميركي كرشيدة طليب والهان عمر في جلب الأصوات المرجّحة لصالح بايدن.
في النهاية يمكن القول في التقدير الأوّلي لنتائج الانتخابات الأميركية أن هناك خاسرين عديدين. طبعا، في الدرجة الأولى الرئيس الحالي دونالد ترامب. لكن هناك خسارة الحزب الديمقراطي على صعيد مجلس النوّاب الذي شهد تراجعاً ملحوظاً في اكثريته في مجلس الممثلين أو النوّاب ولم يحصل أيضاً على الأكثرية في مجلس الشيوخ. كما أخفق أيضاً الإعلام الأميركي وشركات استطلاع الرأي العام التي على مدى دورتين انتخابيتين أخفقت في قراءة مزاج الناخب الأميركي. صحيح أنها كانت محقة بشأن فوز بايدن ولكنها أخفقت في حجم النجاح كما أخفقت في موضوع «الموجة الزرقاء» التي كان من المفروض أن تجتاح الكونغرس الأميركي. أما الدولة العميقة التي «انتصرت» على من أتى من خارج السرب السياسي فكلفة انتصارها قد تكون باهظة بسبب ما رافقها من اهتزاز في مصداقية مكوّناتها. ولذلك حديث منفصل في وقت لاحق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب وباحث اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي.