هل يواصل الأميركيّون خنق لبنان؟
} د. وفيق إبراهيم
يأمل بعض اللبنانيين أن تكون مرحلة الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن أقل ضرراً على أوضاع بلدهم من مرحلة سلفه ترامب الذي لم يعترف بخسارته في الانتخابات حتى الآن.
لا بد أولاً من تأكيد أن العلاقات السياسيّة لا تستند الى الآمال بقدر ما تتكئ على موازين القوى وإمكانية تحقيق الأهداف والتحالفات.
بناء عليه فإن المشروع الأميركي الذي ابتدأ بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في 1989 اخذ أشكال غزو عسكري أميركي من افغانستان الى العراق مستخدماً هجوماً اسرائيلياً على حزب الله في تموز 2006 تمحور حول الجنوب، لكنه شمل معظم مناطق لبنان وكان يشكل جزءاً من مشروع تفتيت الشرق الأوسط الذي وصفته الوزيرة الأميركية السابقة من سفارة بلادها في بيروت في 2006 بأنه مشروع لشرق اوسط كبير، واستكمل الأميركيون هجومهم في سورية وليبيا متدخلين في مصر ومغطين الحرب على اليمن، ومتلاعبين بالسودان وتونس والجزائر.
هذا المشروع أصيب بضربات قوية في مرحلة ترامب عاجزاً عن تحقيق أي تقدم في اي بقعة من المنطقة، فحاول التعويض بفرض تطبيع بين الإمارات والبحرين والسودان مع الكيان الإسرائيلي لا قيمة فعلية له على مستوى التوازنات في الشرق الأوسط لأن كل هذه البلدان هي جزء تاريخي من النفوذ الأميركي.
فوجد الأميركيون نهجاً آخر لترويض الشرق الأوسط وهو أسلوب الحصار الاقتصادي وفرض العقوبات كوسائل إقناع بديلة من الحروب العسكرية الفاشلة.
لبنان اذاً هو واحد من البلدان الواقعة تحت نير العقوبات الأميركية الاقتصادية والسياسية باعتبار ان محاولات السيطرة على حكوماته المتعاقبة والتي قيد التشكيل لم تفلح في مراميها.
كما أن محاولات استنهاض الحلف اللبناني المؤيد للأميركيين لم يصل الى نتيجة مفيدة باعتبار أن الطرف الآخر المناهض لهم يمسك بتوازنات سياسية وشعبية قوية جداً.
لذلك فإن فرض عقوبات على رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل هو جزء من المحاولات الأميركية لإحداث تغيير كبير في موازين القوى الداخلية كان من المفروض ان تتسبب بإرباكات لحزب الله.
لكن باسيل امتنع عن تلبية الأوامر الأميركية ما أدّى الى فرض عقوبات أميركية على حركته السياسية والاقتصادية مع اتهامه بفساد يعرف العالم بأسره أنه يشمل كامل الطبقة السياسية اللبنانية منذ 1990 حتى تاريخه من دون أي استثناء ومعظم المنتمين إليها هم من حلفاء الأميركيين والخليجيين مع بعض التقاربات الأوروبية.
بما يؤكد أن الاستهداف الأميركي لباسيل له سببان: الأول هو التصويب على القوة الداخلية لحزب الله، والثاني دفع القوى المسيحيّة اللبنانية الموالية للأميركيين الى تحقيق سيطرة شبه كاملة على بيئتها الاجتماعية، بما يؤدي أيضاً الى إرباك حزب الله في حركيّته المجابهة للكيان المحتل في جنوب لبنان والمكافحة ضد الإرهاب في سورية ولبنان.
حتى الآن تنتمي كل هذه المحاولات الى مرحلة الرئيس ترامب التي ورثتها عن عهود بوش الأب والإبن وأوباما.
لكن أميركا اليوم تخرج من انتخابات رئاسية نجح فيها بايدن الديمقراطي وفشل فيها ترامب الجمهوري.
فهل يتعامل الرئيس الجديد مع لبنان بشكل مختلف؟
الواقع يقول إن الأميركيين يتعاملون مع لبنان على اساس الصراع الإقليمي ولا يعولون كثيراً على مسألته الداخلية، فالمنطقة بالنسبة اليهم تشمل إيران والخليج والعراق وسورية ولبنان واليمن، وهذه شديدة الترابط بحيث لا يمكن فصل واحدة عن الأخرى إلا اذا حدث تغيير كبير في إحداها لمصلحة الأميركيين تتطلب فصلها عن الوضع الإقليمي واعادة ضمها الى الباقة الخليجية الإسرائيلية.
لكن التوازنات اللبنانية على حالها، بدليل أن إصرار الثنائي حركة امل وحزب الله على تكليف سعد الحريري بتشكيل حكومة جديدة لم ينتج عن رجحان للمحور الأميركي في لبنان بقدر ما عكس ميلاً من الثنائي لتحقيق هدنة داخلية تمنع أي صدامات داخلية مذهبية او طائفية تعمل عليها السياسة الأميركية بدعم خليجي.
فهل يكرّر بايدن سياسات سلفه ترامب نفسها في المنطقة؟ السياسات واحدة لا تتغير، لكن الأساليب هي التي تتبدل، والاهمية بالنسبة للأميركيين هي الاستئثار بأكبر كمية ممكنة من اقتصادات الشرق الاوسط لإعادة ضخّها في اقتصادهم الداخلي.
لذلك يعتبر المنطق أن الخيارات العسكرية الكبرى في منطقة الشرق الأوسط اصبحت اكثر استبعاداً مع نجاح إيران في الصمود وكذلك اليمن وسورية وحزب الله في لبنان.
هذا مع أوضاع ليست كما يشتهيها الأميركيون في العراق.
بمعنى أن بايدن يجد نفسه مضطراً الى البحث عن تسويات مع إيران أولاً وأخيراً لأهميات متعددة اصبحت بحوزتها واولها الغاز الإيراني الثاني عالمياً على مستوى الانتاج بالإضافة الى النفط وكميات ضخمة من الاورانيوم ليست مستثمرة حتى الآن.
اما إيران السياسية فهي حليفة دولة صنعاء المنتصرة والحشد الشعبي في العراق والدولة السورية وحزب الله في لبنان، بمعنى أن أي هدنة حقيقية معها أو تسوية حقيقية فهذا يشمل معظم دول المنطقة ومنها بالطبع لبنان بشكل يصبح فيه ممكناً إنتاج حكومة جديدة يتمثل فيها حلف التيار الوطني مع الثنائي أمل وحزب الله والمستقبل الحريري وجنبلاط وفرنجية والأرمن، فيما يعزل حزب القوات نفسه ممتنعاً عن المشاركة.
هذا هو الطريق الوحيد الذي يعاود إنتاج علاقات أميركية طبيعية في المنطقة بكاملها، ومنها بالطبع لبنان الذي يترقب بايدن بفارغ الصبر آملاً إلغاء العقوبات عن باسيل وفك الحصار عن لبنان لإعادة التوازنات الى طبيعتها.