الومضة المتعالية: تكثُّرات الأنا وامّحاؤها… «أدونيس نموذجًا»
} د. باسل الزين*
ما فَتِئَ حضورُ الذّات يُهيمن على الخطاب الأدبيّ بعامّة، والخطاب الشّعريّ بخاصّة، بما في ذلك الأدب الوجيز، ونعني تحديدًا: الومضة، والقصّة الوجيزة.
لا جرمَ أنّ التّجربة الانفعاليّة تُحتِّم على صاحبها البوح بكلّ ما اعتملت به نفسه، وانطوت عليه تجربته. بيد أنّ الإيغال في النّفس الفرديّة من شأنه أن يحجب الرؤيا الموضوعيّة للذّات، ويحول دون تكثّرها، وانفتاحها على ما احتجب منها، والإتيان بما استعصى عليها. بهذا المعنى، أرى من الضّروريّ طرح فكرة الومضة المتعالية، دفعًا لسبل تفتيق إمكان القول أكثر فأكثر، وإعمالًا لمفاهيم مُحايدة تكون بمثابة بوحٍ مختلف، أي تفريغ آخر لتشظيات الذّات وتفرّعاتها.
ينبغي لنا، والحال هذه، أن نتبيّن المقصود بكتثّر الذّات الشّعريّة، وكيف يُفضي تشظّيها إلى تحقيق وحدة مغايرة عن وحدتها التقليديّة، كي نستشرف، ختامًا، آفاق الومضة المتعالية.
حقيقة الأمر أنّ الذّات المفردة هي ذات متصالحة مع نفسها، تروم تحقيق وحدة ظاهريّة من دون الولوج إلى الشقيّ والعصيّ، والقاصي والدّاني، والمتجلّي والمحتجب في عمق أعماقها. الذّات الشّعريّة ذات ملتبسة، ومنقسمة على نفسها أيّ انقسام. ففي داخل كلّ منّا يقبع المؤمن والملحد، والمتوحّد والمتكثّر، والصّلب والهشّ. بعبارة أخرى، عندما نخاطب ذواتنا فإنّنا لا نخاطب ماهيّة ثابتة بقدر ما نخاطب تجليات الوعي المنظور، ونستنطق المناطق المحظورة التي يتأسّس عليها الخطاب اللاواعي، وتخرج منها العبارات الأكثر التباسًا. بهذا المعنى، عمد بعض الشّعراء إلى مخاطبة الذات بوصفها آخر، كما لجأ بعضهم الآخر إلى استبدال ضمائر الغائب أو المخاطب بضمائر المتكلّم. لننعم النّظر في المقطوعة الآتية:
يقول أدونيس، في ديوانه «تنبّأ أيّها الأعمى»:
«في الهواء في لا مكان
عمّر الشّاعر بيته
واتّخذ من الهجس والأرق والصّمت
أصدقاء له». (ص. 74).
غنيّ عن البيان أنّ الأعمى هنا هو الشّاعر نفسه، الذي أقفل باب البصر وفتح باب البصيرة. والتنبّؤ هنا هو صنو البحث عن ملكات الإبصار البعيدة التي تتيحها الرؤيا وتحجبها الرؤية، لذا عمد أدونيس منذ العنوان إلى صقل المتناقضات من خلال ربط النبوءة بالتّعمّي، ذلك بأنّ الإبصار الحقّ هو الإبصار المعقود على انحجاب الرؤية العينيّة، وانكشاف الرؤيا الباطنيّة. وقد تأتّى له تحقيق مراده بالإتيان على ضمائر المتكلّم، واستخدام فعل الأمر في ضرب من تكثيف الحضور الذاتيّ عبر إقصائه. وتجانسًا مع الصيغة الكلاميّة السّابقة، وجّه الشّاعر سياق القول باتّجاه الشّاعر الذي تفلّت من قيود المكان والزمان، وراح يُطلق العنان لهواجسه وتأرقاته، متّخذًا منها سبيلًا للإطاحة بالوحدة الآمرة التي تحول دون تفتّح الذات على ذواتها. والذات المتكثّرة هنا هي مزيج من الهجس والأرق والصّمت، هذه الذوات المتعددة التي لم تنِ تتفتق من خلال احتجاباتها واستبدالاتها. والجدير بالذّكر أنّ صيغة ضمائر الغائب هذه هي الشّكل الأرقى لضمائر المتكلّم الموغلة في اغترابها: «هوذا، من أردان الأفق، يُحاك ثوب جديد لنهار آخر، احتفلوا بهذه الولادة…». الهوذا، هنا، صنوّ الشّاعر المغترب عن ذاته في سبيل البحث عنها. اغترابه عنها محو لها وتكريس لتجلياتها البعيدة، لذا كان لزامًا أن يكتمل السّياق المعنويّ من خلال الحديث عن نهار جديد، وولادة أخرى يُتيحان سبل التّعرّف إلى الذات المبهمة في احتجابها نفسه.
وبعد، تتكوّن الومضة المتعالية، في خلدِنا، من محوِ الذّات محوًا كاملًا، بُغية البحث عن تجلياتها العصيّة على الظّهور. وإذا كان النّفري قد قال سابقًا: «كلّما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة»، فَبِمِكْنَتِنا، اليوم، أن نقول: «كلّما احتجب الأنا، اتّسعت الرؤيا».
على صعيد الأدب الوجيز، وفي خضم معركة «التجنيس»، يبدو الإيجاز والتّكثيف السّبيلين الأوحدين لقول أشياء كثيرة بكلمات قليلة. قل كذلك عن احتجاب الأنا في غيابها الذي يشي بعلاقاتها اللامحدودة، مع ذاتها أوّلًا، ومع العالم، والكون، والأشخاص، والكائنات، والأشياء، ثانيًا.
يقول أدونيس في الكتاب نفسه:
«وأنت أيّها الشّعر،
ألن توسوس للجنون
كي يُجدّد اكتشاف العقل؟»
ذلكم هو الجانب الآخر من المرئيّ، منظورًا إليه على أنّه قلب مبتكر لمنظومة القيم السائدة، شعرًا، وثقافة، وإبداعًا، إلخ. بتعبير آخر، تكمن وظيفة الشّعر، أدونيسيًّا، في الاغتراب عن بداهات العقل، والولوج إلى المناطق العصيّة على القول، ذلك أنّ كلام الجنون الذي يبدو لغوًا هو عينه كلام الحقيقة بصيغ غير مطروقة، وتعابير محجوبة.
والومضة المتعالية، هي الومضة التي فضلًا عن احتفاظها بسماتها الأمّ: الإيجاز، والتكثيف وغيرهما، إلّا أنّها لا تستطيع الوصول إلى ذروة الإدهاش وهي تتربّع على عرش الأنا الموغلة في أنانيّتها، هذه الأنا التي تُحاذر مغبّة الافتراق عن ذاتها، والنكش في تربة أصولها، وتعرية تهويماتها.
التعالي انعتاق. التعالي بوح مضاعف. التعالي فرصة نادرة للكشف، وغوص يتطلّب شجاعة التنازل، وصقل الانفعالات، وتجويد القول، والارتقاء بمجال التجربة إلى مصاف النقاء المحض.
*عضو ملتقى الأدب الوجيز.