أنطون سعاده مُوَلّـد نظرة جديدة وليس مُقَلّداً ومُقتبس أفكار
الرفيق يوسف المسمار*
مما لا شك فيه، أنّ مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعاده هو الذي اطلق فلسفة المدرحية، وأن اساس هذه الفلسفة هي نظرة سعاده الشاملة الى الحياة والكون والفن، ويخطئ من يحاول ربط «المدرحية» بالفيلسوف الالماني «ايمانويل كانت».
إن انطون سعاده هو من اطلق الفلسفة المدرحيّة، بمعناها القومي الاجتماعي الذي يفهم الإنسان الكامل إنسان – مجتمع وليس إنسان– فرد، ويفهم الحياة وحدة مادية – روحية من دون ثنائية وليس بالأساس المادي وحده ولا بالأساس الروحي فقط، ويقول بالتفاعل الموحّد كأساس للارتقاء الإنساني وليس بالتنافر المجزئ، ويقدم للعالم فلسفة جديدة هي جوهر العقائد الصالحة في الوجود يمكن أن تعتمدها الأمم جميعها كنقطة انطلاق لحياة جيّدة جديدة تكون درجة مشرفة على عالمٍ أجد لا يمكننا تصور مزاياه ومواصفاته وقضاياه وقيمه، ومقاصده ومثله العليا قبل الوصول الى تلك الدرجة المشرفة عليه.
وحتى يومنا هذا لا تزال هذه الفلسفة غير معروفة عند الكثيرين من المفكرين على الرغم من أن بعض الفلاسفة بدؤوا يتلمّسونها بفعل تقدم ورقي الحياة دون إعلانها وتعريفها بوضوح بسبب ان نظراتهم الجزئية الى الإنسان التي تختلف عن نظرة انطون سعاده الى الإنسان.
نظرة أنطون سعاده للإنسان
الإنسان التام في نظرة أنطون سعاده هو: «الإنسان – المجتمع – الأمة «أما بالنسبة للفلاسفة الآخرين فهو» الإنسان – الفرد أو الشخص».
حتى أن الرسالات الدينية الراقية جاءت تقول بالإنسان– الفرد ومن اجل الإنسان – الفرد. بينما الفرد الإنساني في نظر سعاده هو عنصر إنساني وليس الإنسان التام. هو مجرد امكانية إنسانية أو فعالية غير كاملة، وغير تامة. فحيث لا وجود لمجتمع لا وجود لفرد وحيث يوجد المجتمع يوجد الفرد وقد جاء في كتاب نشوء الأمم لسعاده في فصل الاجتماع البشري أن «الاجتماع صفة ملازمة للإنسان في جميع أجناسه، اذ أننا حيث وجدنا الإنسان وفي أية درجة من الانحطاط أو الارتقاء وجدناه في حالة اجتماعية. وهكذا نرى أن المجتمع هو الحالة والمكان الطبيعيان للإنسان الضروريان لحياته وارتقائه.
ولما كنا لم نجد الإنسان الا مجتمعاً ووجدنا بقايا اجتماعه في الطبقات الجيولوجية أيضاً، فنحن محمولون على الذهاب الى ان الاجتماع الإنساني قديم قدم الإنسانية، بل إننا نرجّح أنه أقدم منها وانه صفة موروثة فيها».
وبما أننا لم نجد الإنسان الا مجتمعاً، فقد أصبح بديهياً أن الاجتماع الإنساني هو اساس وجود الإنسان ولا وجود للإنسان ولا حياة ولا بقاء إلا باجتماعيته. فالاجتماع بداية الإنسان وفي المجتمع حياته ولا بقاء له من دون المجتمع.
وهذا ما يوضح بسهولة ان الإنسان الكامل هو الإنسان – المجتمع، وان الإنسان – الأكمل والأتم هو الإنسان – الأمة التائق الى العالمية الإنسانية.
واذا عدنا الى فلسفة ( ايمانويل كانت) ودرسناها دراسة متأنية نجدها غير ذلك، واذا كان يوجد بعض التشابه او التقارب في بعض الكلمات والألفاظ والعبارات والأفكار بين أنطون سعاده والفيلسوف «ايمانويل كانت» فهو في كون الفيلسوف (الألماني كانت) قال بالعقل وسعاده قال بالعقل، وليس فقط الفيلسوف «كانت» وحده هو الذي قال بالعقل، بل إن كثيرين من الفلاسفة قالوا بالعقل أيضاً منذ العهد الأغريقي حيث أطلق على محبي الحكمة السورية من اليونانيين اسم الفلاسفة أي محبي الحكمة الذين كان أبرزهم الذين تعلموا الحكمة وأحبوها في سورية في مدارس الحكمة السورية أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو.
نظرة سعاده تختلف عن نظرات غيره من الفلاسفة
ولأن نظرة أنطون سعاده الى الإنسان تختلف عن نظرات غيره من الفلاسفة الى الإنسان فقد كان بديهياً ان تختلف نظرة سعاده الى العقل عن نظرة غيره من الفلاسفة.
الفرق واضح بين الحكمة وبين محبة الحكمة. وبين الحكيم ومُحِبّ الحكمة. وبين العالم ومُحِبّ العلم. وبين العاقل ومحبّ العقل وبين البطل ومُحبّ البطولة. وبين الصادق في النيّة والقول والفعل وبين الصادق في بعض هذه الصفات وغير الصادق في بعضها..
إن مفهوم العقل عند سعاده يختلف عن مفهوم العقل عند غيره. فمفهوم العقل عند « الفيلسوف كانت» هو مفهوم عقل «الإنسان – الفرد» كما هو عند غيره أيضاً. ومفهوم العقل الذي هو «الشرع الأعلى والقانون الأساسي» عند سعاده هو عقل «الإنسان – المجتمع». وبين عقل الإنسان –المجتمع وعقل الإنسان – الفرد فرق كبير ولا يصحّ به الخلط بين المفهومين.
وأهمّ ما توصل اليه الفيلسوف كانت كان إيجاد مخرج أو توليف بين فلسفة ديكارت العقلية الفردية وفلسفة دافيد هيوم التجريبية الفردية أيضاً. بينما كانت فلسفة سعاده فلسفة جديدة بالكلية.
وحين ذكر سعاده مجموعة من الفلاسفة من بينهم الفيلسوف «ايمانويل كانت» قال في المحاضرة الأولى بتاريخ 7 كانون الثاني 1948:
« أما التكلّم المبعثر على فولتار وموليار ولنكلن وهيقل ووليام جايمس وايمانويل كانت وشوبنهور.. الخ. وعلى مختلف المدارس الفكرية، بدون أن يكون لنا رأي وموقف واضح في تلك الأفكار وأولئك المفكرين، فلا يعني أن لنا نهضة. إن ذلك لا يعني الا بلبلة وزيادة تخبّط. إن الفكر البعيد عن هذه القضايا هو أفضل من الفكر المضطرب المتراوح الذي لا يقدر ان ينحاز او أن يتجه، لأنه متخبّط وليس له نظرة أصلية، ولا يدرك ماذا يريد».
فلسفة أنطون سعاده انبثقت من نظرة أصليّة
لقد جاءت فلسفة أنطون سعاده منبثقة من نظرة أصلية الى الحياة والكون والفن أي حياة الإنسان –المجتمع السوري. وموقف الإنسان – المجتمع السوري من قضايا الإنسان. ورسالة الإنسان – المجتمع السوري في الوجود الى ذاته والى الإنسانية عامة.
ومن المفيد أن نقرأ هذه العبارة لسعاده لنفهم ماذا أراد سعاده وما هو اتجاهه في الحياة حين قال: «نحن أمة واقفة بين الحياة والموت ومصيرها متعلق بالخطة التي نرسمها والاتجاه الذي نُعيّنه… فالتاريخ لا يسجل الأماني ولا النيات بل الأفعال والوقائع».
نعم، إن مصيرنا متعلق بالخطة التي نرسمها نحن لأنفسنا وليس الخطة التي يرسمها الغير لنا سواء كان معجباً أو صديقاً أو حليفاً أو خصماً أو عدواً، ولا بالخطة التي نتمناها أو نتحدث عنها قولاً ونستغني عنها فعلاً بكثرة الأقوال والأمنيات لأن التاريخ لا يسجل الأماني ولا النيات بل الأفعال والوقائع.
والأفعال والوقائع والإنجازات تكون في إحداث نهضة تغيّر الواقع من حال الى حال فتخرج الأمة مما هي فيه من تخلف الى حال تقدم، ومن تخاذل الى نشاط، ومن واقع لا يصلح للحياة الى واقع جديد كله جدة وجودة لحياة أفضل.
ولإحداث وتحقيق مثل هذه النهضة لا بدّ من تسليط الضوء على قول سعاده الذي ورد في كتاب شروح في العقيدة القومية الاجتماعية لفهم تفكير سعاده الجديد، حيث قال:
« مما لا شك فيه إن النظريات الاجتماعية الاقتصادية من كارل ماركس وانغل الى الاجتماعيين الاقتصاديين الجدد قد القت نوراً قوياً على مشاكل المجتمع الإنساني الاقتصادية. ولكن الاشتراكية لم تتمكن من حل القضايا الإنسانية الاجتماعية المعقدة، وعند هذه النقطة يبتدئ عمل الدماغ السوري الغني بالخصائص النفسية. ومن هذه النقطة تبتدئ الفلسفة السورية القومية الاجتماعية التي تقدّم نظرات جديدة في الاجتماع بأشكاله النفسية والاقتصادية والسياسية جميعها وهو بحث واسع نودّ أن ينفسح لنا المجال لنعود اليه ونكشف عن أهمية التفكير القومي الاجتماعي الذي يقدم النظرة الجامعة للمذاهب الإنسانية الجديدة المتنافرة».
جديد أنطون سعاده التوليد لا التقليد
يتضح من قول سعاده أن تفكيراً جديداً وفلسفة جديدة يطلقهما سعاده يبدآن ويولدان بسعاده لا سابق لهما لا عند «الفيلسوف ايمانويل كانت» ولا عند غيره من الفلاسفة.
إنهما التفكير القومي الاجتماعي غير المألوف سابقاً، والفلسفة القومية الاجتماعية المادية الروحية (المدرحية) الجديدة كل الجدة التي لم يقل بها أحد من الفلاسفة باستثناء جذورها في الحضارة السورية.
إننا، اذاً، مع ولادة نظرة أصلية الى الحياة لا تقوم على التقليد والاقتباس والاستيراد، بل تقوم على التوليد والخلق والابتكار والإبداع.
نظرة سعاده أساس فلسفته
إن نظرة أنطون سعاده الى الحياة والكون والفن والعالم ليست كنظرات غيره من المفكرين والفلاسفة تسمح بالقول إن انطون سعاده اعتمد على الفيلسوف (ايمانويل كانت) في تفكيره المدرحي وأخذ فكرة الفلسفة المدرحية عنه أو وعن غيره.
فجذور نظرة أنطون سعاده الى الحياة هي عميقة في حضارة الأمة السورية، وعبقرية سعاده جددتها وحدثتها وعصرنتها لتنهض بأمته السورية وتنقذها من الويل الذي حلّ فيها.
ولذلك كانت نظرته الى الحياة وموقفه من الحياة يقضيان أن يتعمق الإنسان السوري في فهمها وبنائها وتحسينها والاتجاه الى المثل العليا السامية التي يجب أن يسعى إلى تحقيقها، لأن الحياة بدون مثل أعلى منشود وجودها كعدمها ولا تليق بالإنسان السوري الحضاري.
أما نظرته الى الكون فهي موقف من الكون الماثل أمامنا لا يعبّر عنه إلا بالوعيّ والجرأة والشجاعة وعدم الخوف من الكون وخفاياه وغياهبه، ورفض الاستسلام أمام غوامضه، بل السعي لكشف واكتشاف كل ما تستطيع عبقرية وإرادة الإنسان – المجتمع السوري كأمة اكتشافه من أسرار الكون وألغازه لتوسيع آفاق الإدراك والمعرفة.
أما نظرته الى الفن أو الفنون، فهي رسالة ودور الإنسان – المجتمع السوري أي الأمة السورية في تفعيل مواهبه في الوجود وتحريضها على كل تصور راقٍ، وابتكار كل مفيد، وإبداع ما تألق وارتقى من الفنون الدافعة والممهّدة الى الأرقى والأبدع.
أما نظرته الى العالم فهي رسالة الأمة السورية في تقديم تفكيرها وفكرها القومي الاجتماعي الجديد وتقديم فلسفتها القومية الاجتماعية المادية الروحية الجديدة الى جميع الأمم من دون استثناء من اجل حياة إنسانية راقية في عالمٍ راقٍ لا مكان فيه لظالم ومظلوم.
غاية فلسفة سعاده إيجاد مجتمع جديد
وهذا ما يتضح لنا بجلاء من خلال قراءة هذه العبارة في المحاضرة الأولى لسعاده في الندوة الثقافية بتاريخ السابع من كانون سنة 1948 التي يقول فيها إن الحركة السورية القومية الاجتماعية هي:
«حركة فكريّة ذات نظرة واضحة إلى الحياة، وهي أهلٌ للاضطلاع بعمل عظيم كالذي وضعناه نصب أعيننا، وهو إيجاد مجتمعٍ جديدٍ نيّر في هذه البلاد وإيصال هذه النظرة الى كل مكان».
هذه هي فلسفة النهضة التي لا تعتمد على التقليد ولا الاقتباس بل على التوليد والخلق. وقد كانت فلسفة سعاده ابتكاراً جديداً. وهذا المفهوم يمكن أن نجده في رسالة سعاده الى الدكتور شارل مالك في 10 أيار سنة 1938 حين كتب للدكتور شارل مالك يقول:
«وإنه من الحسن أن يفكر الإدراك العادي بديمكريطس وصكرات وأفلاطون وأرسطو وأغسطين وزينون ونيتشه. ولكني حين أفكر أنا في الفلسفة لا أفكر بهذه الأسماء، بل في الحقائق الأساسيّة والمرامي النفسية الأخيرة عينها التي فكر فيها هؤلاء الفلاسفة. وأعتقد أنك أنت أيضاً ستظل تحدق، من خلال هذه الأسماء، في الحقائق النفسية الأخيرة، حتى تغيب من أمام باصرتك هذه الأسماء، وتغوص على هذه الحقائق والمرامي في أعماق نفسك، وتحسّ تياراتها الخفيّة الجارية من تحت الطبقات التاريخيّة المطبقة عليها، فتكتشف نفسك – نفسيتك الأصلية بكل جمالها وكل قوتها – فتخرج فيلسوفاً لا ناقل فلسفة، وحينئذ تجد الحلقة المفقودة بين الفلسفة والإدراك العادي وتدرك الرابطة بين الفيلسوف وأمته، وبين حيوية أمته وقبول الشعوب القريبة منه.، حينئذ لا تعود بك حاجة لمناداة الشرق الأدنى أو العالم العربي لأن فلسفتك، فلسفة أمتك، تكون قد أصبحت فاعلة».
سعاده فيلسوف مبدع وليس ناقل فلسفة
إن سعاده حين فكّر في الفلسفة لم يضع أمامه أي مفكر أو فيلسوف من المفكرين والفلاسفة بل تناول الحقائق الكبرى، والقضايا العظمى، والمُثُـل العليا، والمقاصد المهمة الأخيرة في هذا العالم، وقد غابت من أمام بصيرته كل تلك الأسماء فاستطاع أن يكون الإنسان – الفرد الفريد الاجتماعي الحكيم الذي تفاعلت في نفسه عوامل الإدراك السليم، والمناقبية الأخلاقية العالية فكان تحصيل حاصل أن يكون حكيماً مبتكراً مبدعاً بامتياز، وعالماً وفيلسوفاً وقائداً قدوة.
وقد ذكرت في كتابي: «مفاهيم قومية اجتماعية» الذي صدر في 16 تشرين الثاني 2009 عن المعلم أنطون سعاده إن «الفيلسوف الحق هو المعلم، الفنان، القائد، النابغة الذي يستطيع بما يمتاز ويتميّز به من مواهب، ونبوغ، وعبقريّة أن ينهض بالحياة وبالنظر إلى الحياة، فيضع قواعد عهد جديد لشعبه، ويوجد تعاليم فلسفية سامية تنبثق من نظرة سامية شاملة الى الحياة والكون والفن تستوعب أسمى المقاصد، وأرقى المطامح النفسيّة نافذةً الى أعماق السرائر، مُحرّكةً خصائص النفسية الاصلية التي تفجّر في الأنفس كل قيم ومناقب الوعي والمعرفة والتفوق والصراع والبطولة، فتثور على عهودها المظلمة صانعة بنفسها تاريخها الجديد بوعي لا تعتريه أضاليل، وايمان لا تزعزعه محن، وارادة لا تقهرها نوازل، وروحية لا تقبل بأقل من تشريف الحياة وتحسينها وترقيتها».
وهذا ما كانه سعاده من اللحظة التي طرح على نفسه الأسئلة الكبيرة التالية:
«ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟
ومن نحن؟
ما هي قيمة الحياة بدون مبدأ؟
ما هي الحياة بدون مثل منشود؟
ما الغرض من وجود الإنسان؟
ما هو القضاء والقدر؟».
الى ان سمع في بلاد غربته وسط الليل المخيّم صوتا رخيماً يناديه:
«يا ابني أين أنت؟» فيرفع رأسه وينظر في وجه السماء وينادي:
«يا أمي أين أنتِ؟» فيسمع نداء آخر يناديه:
« يا ابني أين أنت؟»
فيحدّق في وجه الأفق في بلاد غربته وينادي:
«يا بلادي أين أنتِ؟»
ويستجيب لنداء أمه ونداء بلاده لينهض ببلاده ويوحّدها ويقرّر أن يعيد إليها حيوية الحياة في حياته إذا استطاع. فإن لم يستطع فلا يرى سبيلاً الى إعادة الحياة اليها إلا بموته ليعلّم أخوته أبناء أمته الدرس العظيم الذي هو كيف يكون الموت طريقاً الى الحياة فيمارسه عن سابق تصميمٍ وإصرار، وبوعي وايمان وقرار حر قصداً وقولاً وفعلاً، ويختم رسالته بدمه فيشعل في أمتنا منار الحكمة السورية القومية الاجتماعية الخالدة من جديد الذي لا ولن يعرف الانطفاء.
وهذا المنحى الجديد الإبداعي في النظر والفكر والفلسفة والموقف والعمل نجده في تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي فكرةً، ونظام نهج، ومناقب وصراعاً دائماً مستمراً في سبيل غاية عظمى ومُثُل عليا لا نهاية لها عبّر سعاده عن ذلك في قوله:
«الحزب السوري القومي الاجتماعي نشأ بتفكير الإبداع السوري المستقل. يجب على الأمم الراقية أن تتشبّه بنا وتنسج على طرازنا القومي الاجتماعي».
سعاده مفكر قوميّ اجتماعيّ عمليّ
إن الفرق الكبير بين الفيلسوف الألماني (ايمانويل كانت) وأنطون سعاده السوري هو الفرق بين مفكر تأملي تأثر بمن سبقه من الأفكار والنظريات الفكرية والتجريبية المطلقة يمكن أن يتناظر بها بعض المفكرين النظريين والفلاسفة التأمليين والكتّاب والناس العاديين وبين صاحب نظرة أصلية أصيلة جديدة كلية شاملة عملية الى الحياة والكون والفن يؤسس بها وعلى ضوئها حركة نهضة أمة ويبعثها أمام وجه الشمس حياة جديدة هي أكبر من الأفكار وأبقى من النظريات لأنها مُولّدة أفكار ونظريات حياتية عملية راقية لم تخطر على بال حملة الأفكار السابقين.
والفرق بين التوليد والابتكار وبين التقليد والاقتباس لا ينكره الا جاهل، أو سيئ النية أو عدو. ولأن مفهوم الفيلسوف «ايمانويل كانت» للإنسان كان مفهوماً جزئياً بمعنى انه نظر الى الإنسان «كإنسان – فرد» فقد تركزت تنويريته على تنوير الشخص الفردي لمنفعته الخصوصية وخروجها من الدونيّة وحثّها على الخروج بالرغم من إقراره بعدم قدرة الإنسان الفرد على الاستفادة بشكل مستقل أي بدون مساعدة أو وصاية.
وبهذا توقف عند حدود الشخصية الفردية وترك كتباً على رفوف المكتبات تحمل أفكاراً يلجأ اليها هواة المطالعة والاطلاع على خواطر المفكرين أو طلاب المدارس ليؤدوا امتحاناً ينالون بعده شهادة مدرسية.
فلسفة سعاده فلسفة نهضة أمة
أما أنطون سعاده الذي توصل بنظرته الشاملة الى فهم الإنسان فهماً كلياً تاماً «كإنسان – مجتمع «وليس «إنسان – فرد»، فإن فلسفته التنويريّة تركّزت على التخلّص كما ورد في محاضرته الأولى في الندوة الثقافية بتاريخ السابع من كانون الثاني 1948 من أن
«الفكر المضطرب هو الذي يبتدئ بالتأثر بأحد المفكرين ثم ينتقل الى آخر يحصر نفسه ضمن نطاق بعض الأفكار ولا يعود يخرج. ويبدأ بمناقضة كل من له رأي آخر فتنشأ حالة الفسيفساء التي تتقارب قطعها ولكنها لا تتحد».
لقد كان همُّ أنطون سعاده خروج إنسان – مجتمع – الأمة السورية من الظلمة الى النور أي بانبثاق فلسفة «النحن» وخروجنا من غرائز «الأنا» الى سناء المدارك المنفتحة على جمال الحياة وضيائها الذي يعني هذا الخروج نهضة أمة ولاّدة تُولّد أجيالاً تتقدم من رقيّ الى أرقى، ومن سموّ الى أسمى بعزيمة وإصرار وعمل وعطاء وتضحية، وهذه هي النهضة الحقيقيّة للإنسان فرداً وجماعة وأمة مدلولها عند سعاده:
«خروجنا من التخبّط والبلبلة والتفسخ الروحيّ بين مختلف العقائد الى عقيدة جلية صحيحة واضحة نشعر أنها تُعبّر عن جوهر نفسيتنا وشخصيتنا القومية الاجتماعية، إلى نظرة جلية، قويّة الى الحياة والعالم».
مما جعل سعاده يرفض أن تكون مهمته محصورة فقط بترك كتب فكريّة او أدبية أو تأملية على رفوف المكتبات يتكدّس فوقها الغبار، بل ولّد وأبدع كائناً حيّاً بَدَأَ ينمو ويشتد عصبه برعاية أنطون سعاده نفسه في حياته، ويستمر بعد رحيل جسد سعاده كائناً حياتياً نامياً فلسفياً نهضوياً تجددياً هو الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي عرّفه وعيّن روحيّته بأنه فكرة وحركة تتناولان حياة الأمة السورية بأسرها في قوله البليغ في خطابه المنهاجيّ في اول حزيران سنة 1935: «ليس الحزب السوري القومي الاجتماعي، إذاً، جمعيّة أو حلقة كما قد يكون لا يزال عالقاً بأذهان بعض الأعضاء، الذين لم يسمح لهم الوقت بالوقوف على المبدأ الحيويّ الذي ينطوي عليه الحزب السوري القومي الاجتماعي وعلى حاجة الأمة السورية في هذا العصر. إنه فكرة وحركة تتناولان حياة أمة بأسرها، إنه تجديد أمة توهم المتوهمون انها قضت الى الأبد، لأن العوامل العديدة التي عملت على قتل روحيتها القومية كانت أعظم كثيراً من أن تتحمل أمة عادية نتائجها ويبقى لها كيان أو أمل بكيان، إنه نهضة أمة غير عادية – أمة ممتازة بمواهبها، متفوقة بمقدرتها، غنية بخصائصها – أمة لا ترضى القبر مكاناً لها تحت الشمس».
هذه الأمة غير العادية، الممتازة بمواهبها، المتفوقة بمقدرتها، الغنية بخصائصها، المشعّة بإبداعاتها، والعريقة بحضارتها هي بالضبط التي استمدّ منها أنطون سعاده فكره الإبداعي وجعله حكيماً لا مردّد حِكَم الحكماء، وعالماً لا حامل كتب علوم، وفيلسوفاً لا ناقل فلسفة، وفناناً لا مُقلّد فنون وململم مرتسمات، ولا مجمّع تصاميم، وقائد حركة نهضة أمة لا وريث سلطان بالولادة أو الحظ أو بتنصيبه حاكماً بإرادة غريبة، بل رائداً في الحكمة والعلم والفلسفة والفن والإبداع في العطاء والفداء.
فلسفة سعاده فلسفة حياة وقيم أجود
ولأن الحزب الذي أسسه سعاده فكرة وحركة تتناولان حياة الأمة السورية بأسرها فهو مدرسة حياة جديدة متفوقة بنموّ حياتها، ومتفوّقة برقي فكرها، ومتفوقة بعمق واتساع وامتداد وشمول نظرتها الى الحياة والكون والفن والعالم، ومتفوقة في سعيها الدائم الى:
«طلب الحقيقة الأساسية الكبرى لحياةٍ أجود، في عالمٍ أجمل، وقيَم أعلى. لا فرق أن تكون هذه الحقيقة ابتكاركَ أو ابتكاري أو ابتكار غيركَ أو غيري، ولا فرق أن يكون بزوغ هذه الحقيقة من شخصٍ وجيهٍ اجتماعياً ذي مالٍ ونفوذ، وأن يكون انبثاقها من فردٍ هو واحدٌ من الناس، لأن الغرض يجب أن يكون الحقيقة الأساسية المذكورة وليس الاتجاه السلبي الذي تقرّره الرغائب الفرديّة، الخصوصية، الاستبدادية».
كما ورد في كتاب «الصراع الفكري في الأدب السوري « لمبدع النظرة الجديدة أنطون سعاده.
ولو كان الفيلسوف الالماني (ايمانويل كانت) أو غيره من الفلاسفة في الشرق والغرب مكتشف وواضع هذه النظرة الشاملة لكان سعاده أول المؤيّدين لها والآخذين بها، ولما تنكرنا لها، ولكنا أخذنا بها واعتنقناها تمهيداً لما يمكن أن نصل اليه بهداها من قمم النظر السامي لخير حياة أمتنا والإنسانية في زمننا الحاضر ومقبل الزمان.
التفكير القومي الاجتماعي منار الأمم
ولأن نظرة سعاده بلغت هذا المستوى العالي في التفكير القومي الاجتماعي الإنساني وحركة صلاح الإنسانية كان من حقنا كأمة مبدعة لهذه النظرة أن نقول وبدون تردد أو غرور او استكبار «يجب على الأمم الراقية أن تتشبّه بنا وتنسج على طرازنا القومي الاجتماعي».
وعندما وجد سعاده انه لم يكتمل بناء حركة النهضة القومية الاجتماعية في مدرسة الحزب السوري القومي الاجتماعي التي كانت لا تزال حديثة النموّ في بداية التكوّن وعلى أبواب النضوج أكمل المعلم سعاده جوهر البناء الفكري الحركي بنفسه في وقفة العز معلناً، في موقفٍ فريد في تاريخ حركات نهضات الأمم، أن دمه شرط لانتصار قضية الأمة، وأنه يغادرُ جسده راضياً مطمئناً الى أن حركة النهضة السورية القومية الاجتماعية التي أطلقها مستمرة في الحزب الباقٍي لمواصلة رفع النفوس من الأرض الى السماء، وأن تلامذته ورفقاءه السوريين القوميين الاجتماعيين ليسوا الا الكائن الفلسفي الحيّ الذي أطلقه سعاده في هذا الوجود.
ان انطون سعاده هو مولّد نظرة جديدة الى الحياة والكون والفن وليس مقلّد ومقتبس أفكار وجامع أقوال وقد رفض بالكلية التقاليد البالية والتقليد والاقتباس وكل ما من شأنه أن يحول بين الأمة السورية ونهضتها.
مهمة سعاده توليد نهضة
وقد عبّر أنطون سعاده عن مهمته بكلام واضح وصريح في قوله:
«إنّ مهمّتي الأولى وعملي الأساسي هما فوق السياسة، فالذي أقوم به هو توليد نهضة الأمة، وشق طريق الحياة لها، ووضع القواعد الاجتماعية الاقتصادية لإيجاد حياة أفضل».
هذه هي مهمة سعاده المبدع لا المقلّد، والمبتكر لا المقتبس، والمفكر القومي الاجتماعي المنير طريق أمته الى المجد وليس المفكر المهموم بنفسه الفردية لإشباع نزواته الآنانية حتى ولو أطاحت نزواته بمجد أمته وحوّلت حضارتها الى خراب. ولذلك بقيت نظرته بعد رحيل جسده وبقي فكره القومي الاجتماعي دليلاً للأمم نحو حياة أفضل، وبقيت أفكاره دائمة الحداثة متجددة دافعة أبناء الأمة الى كل أحدث وكل أجد وكل أجود.
إن انطون سعاده هو مولّد نظرة جديدة الى الحياة والكون والفن وليس مقلّد ومقتبس أفكار وجامع أقوال وقد رفض بالكلية التقاليد والتقليد والاقتباس وكل ما من شأنه أن يحول بين الأمة السورية وانبعاثها وعودتها الى الحياة ونهضتها.
هذا هو أنطون سعاده الحكيم الطبيب المدرحي الإنساني والعالم والفيلسوف والمناقبي الذي قام ببعث أمته بعد موت سريري استمرّ لأكثر من ألفي عام ظنها أعداؤها خلال حالة غيابها عن الوعي انها منقرضة في مقبرة العدم ولا أمل لها بالشفاء.
فلم يطلب من أحد مساعدته على توصيف حالتها، وابتكار دواء إحيائها، والقيام بمهمة اخراجها من العدم الى الحركة وتوليدها كائنا حياً سوياً ينبض بنظرة جديدة، وبصيرة جديدة، وهمة جديدة الا إله العالمين الذي اتكل عليه بعد انطلاقه بمهة التوليد وليس قبل انطلاقه منادياً:
«أمي وبلادي ابتداء حياتي وسيلازمانها الى الانتهاء. فيا إلهي أعنّي لأكون باراً بهما».
وقد كان باراً طوال مسيرة حياته وفي اختيار موته في ابداعه نظرة شاملة للحياة والكون والفن والمثل العليا، وفي تفكيره القومي الاجتماعي، وفي فلسفته المدرحية، وفي تأسيس حزبه الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي شعاره: «لقد شهد أجدادنا الفاتحين ومشوا على خطاهم، أما نحن فسنضع حداً للفتوحات».
واذا كان لا بد من فتوحات جديدة ففتوحاتنا لن تكون الا المزيد من القيم الإنسانية التي تحيي وتبعث الرجاء في اليائسين.
ولو سمحت العناية الإلهية وقُدّر للفيلسوف الالماني «ايمانويل كانت» وغيره من الفلاسفة أن يولدوا بعد أنطون سعاده لكانوا استوحوا نظرة سعاده وفكره وفلسفته وأخلاقيته وسعيه في هذه الحياة.
إن عمر الأفراد يقاس بالأيام والشهور والفصول والأعوام، أما عمر الأمم فلا يقاس الا بالأجيال والقرون والعصور. فاذا كان االبعض من الذين اعتنقوا الفكر القومي الاجتماعي أو الذين يعادون الفكر القومي الاجتماعي وهم كثر توهموا ويتوهمون ان الانتصار يكون بسحر ساحر او بتقديم رأي أو بإلقاء خطاب أو كتابة مقال أو قصيدة أو كتاب أو سلسلة كتب أو بمظاهرة أو تجييش جمهور أو بتهييج غرائز شعب، فقد فاتهم أن الصغير لا يصير كبيراً بالنفخ، ولا الطفل القاصر يصبح راشداً بالتلاعب بعواطفه، ولا الشعب الخامل يتحول الى شعب يقظ نشيط بغمره بالخرافات، ولا الأمم البائدة تستطيع ان تغيّر وجه التاريخ بتغذيتها ببقايا فتات الأمم ولا الأغصان اليابسة يمكن أن تنمو وتصبح مزهرة مثمرة بالتراكم وفقدان طاقة الحياة.
إن انطون سعاده ولّد كائناً إنسانياً اجتماعياً ناهضاً بروحية الوجدان الاجتماعي الواعي الخالق النهضة في الأمة. وهذه النهضة هي المولود السوري الجديد الحيّ الواعي البصير التي وصفها سعاده بقوله:
«هـذه الـنّـهـضـة السورية القومية الاجتماعية تـمـثّـل انـتـصـارًا عـلـى الـلاّوعـي، تـمـثّـل انـتـصـارًا عـلـى الـجـمـود، إنّـهـا نهـضـة تـعـيـد الـذّات إلـى حـقـيـقـتهـا، تـعـيـدهـا لـتـكـون قـوّة فـاعـلـة لا مـادّة يُـفـعـل فـيـهـا، فـهـي، مـن هـذه الـنّـاحـيـة تـمـثّـل انـتـصـارًا روحـيًّـا عـظـيـمًـا هـو الـشّـرط الأوّل فـي سـبـيـل الانـتـصـار الـمـادّيّ. إنّـنـا بـهـذه الـنّـهـضـة قـد انـتـصـرنـا عـلـى الـلاوعـي لأنّـنـا حـركـة لا عـدم».
*ناقد وشاعر قومي مقيم في البرازيل.