موسكو تهزم الإنجليز على ضفاف الفولغا وتطيح بالطورانيّة في القوقاز…!
محمد صادق الحسيني
قد لا يخطر لأحد حتى للمتابع الفطن للوهلة الاولى بأن سبب اندلاع حرب القوقاز الاخيرة انما يقف وراءها نزوع بريطانيّ شره قديم للسيطرة على مقدرات أمم القوقاز عاد وتجدّد في معركة السيطرة على قره باغ..!
فالحرب، التي شنها الجيش الأذربيجاني على إقليم ناغورني قره باغ الأرمني السكان، منذ 27/9/2020 وحتى توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار، بين روسيا وأرمينيا وأذربيجان، قبل أيام معدودة لم تكن حرباً وليدة الساعة وليست ناتجة عن رد فعل اذربيجاني، على أطلاق نار من طرف قوات إقليم ناغورني قره باغ مثلاً، وإنما هي حرب تشكل استمراراً للحروب التي كانت تشنها بريطانيا في مناطق جنوب القوقاز ووسط آسيا (ما يعرف حالياً بالجمهوريات السوفياتية الإسلامية السابقة) بهدف وقف ما كانت تسميه لندن «التمدد الروسي» في آسيا… تلك السياسة التي لا زالت بريطانيا ومعها الولايات المتحدة ودول حلف شمال الاطلسي تمارسها حتى الآن، ليس تجاه روسيا فحسب وانما تجاه إيران أيضاً، التي تتهمها قوى الاستعمار الاوروبي «بالتمدد وتوسيع نفوذها» في «الشرق الاوسط»…!
للمتابع الفطن نقول إن هذه الحرب لم تقع صدفةً وإنما تم التخطيط لها بعناية فائقة، وبقيادة بريطانية أميركيةٍ، كان بطلها السفير البريطاني السابق في تركيا، ريتشارد مور Richard Moore، الذي كان سفيراً فيها منذ بداية سنة 2014 وحتى نهاية 2017، وهو الصديق الحميم لأردوغان شخصياً ولمعظم السياسيين والجنرالات الأتراك، خاصة أنه يتكلم اللغة التركية بطلاقة ويدير مدوّنة شخصية باللغة التركية حتى اليوم، على الرغم من أنه كان قد سُمّيَ رئيساً لجهاز المخابرات البريطانية الخارجية (MI 6)، في شهر تموز 2020، وتسلم منصب قائد هذا الجهاز بتاريخ 2/10/2020 بعد إنهاء الإجراءات المتعلقة بتقلد هذا المنصب.
وهو كان ضابطاً فيه، حتى أثناء عمله كسفير في تركيا.
وهذا يعني أن الأب «الشرعي» لهذه الحرب هي بريطانيا، من تحت المظلة الأميركية، بينما لعب اردوغان وجنرالاته، ونتن ياهو وضباط جيشه ومخابراته، دور الأدوات لا أكثر، بهدف تنفيذ الخطة العسكرية لغزو إقليم ناغورني قره باغ وأجزاء من جنوب أرمينيا.
وقد كانت الأركان الرئيسية للخطة الشاملة تقضي بزعزعة الاستقرار في جنوب القوقاز وجمهوريات آسيا الوسطى، وصولاً الى الحدود الغربية للصين مع جمهورية قرقيزستان.
وإن الأركان الأساسية كانت هي التالية:
أولاً: أن يقوم الجيش الأذربيجاني بشنّ هجوم خاطف وسريع (ما يُسمّى بليتس كريغ – Blitzkrieg – أي حرب خاطفة باللغة الألمانية أصل هذه التسمية)، لا يستمرّ أكثر من أسبوع، لاجتياح إقليم ناغورني قره باغ وجنوب أرمينيا، وذلك انطلاقاً من حسابات المخطّطين العسكريين الأميركيين والبريطانيين والإسرائيليين والأتراك، الذين كانوا قد أعدوا الجيش الأذري بشكل جيد لمثل هذه المهمة، على صعيد التسليح والاستخبارات، ورفده بآلاف عدة من فلول داعش والنصرة الذين تمّ نقلهم جواً، عبر الأجواء الجورجية إلى أذربيجان، وغير ذلك من وسائل الدعم.
ثانياً: واستكمالاً لهذه الخطة العسكرية، التي بدأ تنفيذها بتاريخ 27/9/2020، يتمّ تفجير حرب ناعمة (ملوّنة)، موازية لهذه الحرب، ولكن في جمهورية قرغيزستان، المحاذية لحدود الصين الشمالية الغربية. وهو ما حصل فعلاً، حيث انفجرت يوم 4/10/2020، أعمال شغب وفوضى على نطاق واسع، احتحاجاً على نتائج انتخابية أجريت هناك، والتي كان للمخابرات المركزية الأميركية دور واسع في إشعالها وتأجيجها، خاصة أن الإدارة الاميركية كانت قد أُجبرت، سنة 2014، على إخلاء قاعدتها الجوية من شمال شرق قرقيزستان، والتي كانت تعتبر قاعدة متقدّمة ورأس جسر هام جداً، في إطار الحشد الاستراتيجي الأميركي ضدّ روسيا والصين.
ولكن هذه الحلقة من حلقات الحرب الناعمة الملوّنة قد فشلت، بتضافر جهود محلية وأخرى دوليّة، نجحت في وأد تلك المؤامرة «بشكل خاطف» وحاسم. وبالتالي وجهت ضربة استراتيجية لمخططات قوى الاستعمار الغربي، القديمة والجديدة، والتي كانت تهدف الى إحداث تغيير استراتيجي في موازين القوى في منطقة وسط آسيا.
ثالثاً: كان من المفترض، وبعد نجاح الجيش الاذربيجاني – حسب الخطة – في حسم الحرب وتحقيق أهدافه العسكرية، أن يعقد في باكو، عاصمة اذربيجان.
أواخر شهر 10/2020، مؤتمر مجلس التعاون للدول الناطقة باللغة التركية، الذي تأسس في اسطنبول بتاريخ 16/9/2010، وأن يتم خلال هذا المؤتمر الإعلان عن تأسيس «جيش طوران العظيم».
وهذا يعني، عملياً وعملياتياً، إدخال اذربيجان في الأطر العسكرية التركية وبالتالي تلك الأطر التابعة لحلف شمال الأطلسي، تمهيداً لابتلاع بحر قزوين والتمدد، عبر تركمنستان، الى أوزبكستان وطاجيكستان وقرغيزستان، كما ذكرنا أعلاه. اي تطويق روسيا، عند حدودها الجنوبية، ليس فقط بقوات الاطلسي، وانما بعشرات آلاف العناصر الإرهابية، التي كان من المفترض ان تنقل الحرب الى داخل الأراضي الروسية شمالاً، أي شمال القوقاز، والى داخل الاراضي الصينيه شرقاً عبر قرغيزستان، والى داخل
الأراضي الإيرانية في الجنوب الغربي، الى
محافظة أذربيجان الغربية بدايةً وما يعنيه ذاك من تهديد للأمن القومي الإيراني، إضافة الى ما كان سيشكله من إخلال خطير بموازين القوى الاستراتيجية، في تلك المنطقة، خاصة اذا ما أخذنا العامل الإسرائيلي بعين الاعتبار وما كان يمكن أن يقوموا به من أدوار ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
رابعاً: لكن فطنة وحنكة الرئيس الروسي والتنسيق العميق، بين القيادة الروسية والإيرانية، لإيجاد حل دبلوماسي لتلك الحرب، انطلاقاً من اتفاقية لوقف إطلاق النار الفوري، قد نجحت في افشال الخطط العسكرية والسياسية، ذات الطبيعة الاستراتيجية، التي خططت لها قوى الاستعمار الغربي. وقد كان المنطلق الاساسي، لمهندس هذه النتيجة (وقف الحرب)، هو خلق نوع من التوازنات الميدانية عسكرياً، بما يفرض على الطرفين القبول بوقف إطلاق النار، تمهيداً للبدء في البحث عن وسائل ديبلوماسية وسياسية قادرة على خلق الاستقرار في كل منطقة جنوب القوقاز واواسط آسيا وإخراج المنطقة نهائياً من دائرة تجدد الحروب والنزاعات المسلحة، التي تقضي على كل فرص النمو والازدهار.
علماً أن فشل الجيش الاذربيجاني، في اجتياح إقليم ناغورني قره باغ وجنوب أرمينيا، بالسرعة المطلوبة كان عاملاً أساسياً في الوصول الى النتيجة التي نراها أمامنا، والمتمثلة في ما يلي:
أ ـ نجاح روسيا، من دون أن تتدخل عسكرياً او تطلق
حتى رصاصةً واحدةً، في وقف القتال، وبالتالي منع توسع نطاق الحرب الى دول مجاورة، جنوباً وشرقاً، او الى جمهوريات روسية جنوبية (جمهوريات منطقة الڤولغا).
ب ـ الأهمية القصوى لهذا النجاح بالنسبة لإيران، حيث إنه قد قضى على إمكانية انتشار العصابات الإرهابية المسلحة على حدودها الشمالية الغربية، وما كان سيرافق ذلك من تسلل إسرائيلي الى أطراف تلك الحدود الإيرانية.
ج ـ إخراج تركيا، كعضو في حلف شمال الاطلسي، وأردوغان كحالم بإمبراطورية طورانية جديدة، من توازنات القوقاز وأواسط آسيا، على الرغم مما تردده وسائل الإعلام المختلفة عن تنسيق تركي روسي يتعلق بمراقبة وقف اطلاق النار.
فمن يراقب وقف إطلاق النار ومنع التسلل التركي / الاطلسي، الى اذربيجان وبقية انحاء آسيا الوسطى، هو لواء القوات الخاصة الروسية، الذي انتشر على خطوط التماس، والقوات التي سيجري تعزيزه بها، اذا ما دعت الضرورة الى ذلك. ستكون هي القوات التي تمسك بالأرض، وهي التي ستشرف على الممرات الآمنة، بعرض 5 كلم، بين إقليم قره باغ (ممر لاشين) وأرمينيا، وبين إقليم نقچوان واذربيجان، عبر جنوب أرمينيا.
وهو ما يعني أيضاً استعادة روسيا زمام المبادرة الاستراتيجية في كل فضائها الجنوبيّ، وإن بشكل يختلف عن الوجود الروسي، في هذه المناطق، إبان الحقبة السوفياتية.
إنه حضور مرن قادر على التكيّف مع كلّ المتغيرات الجيو استرتيجية والحفاظ على مصالح روسيا العليا ومصالح حلفائها، على الصعيد الدولي.
لكن كلّ هذه النجاحات لا تعني انّ التآمر الاستعماري الغربي، خاصة البريطاني الأميركي، قد انتهى الى غير رجعة، وإنما يعني ان الأرضية الاستراتيجية لإنهاء هذه المؤامرات والأطماع قد وضع لها حدّ مبدئياً.
والتطبيق العملياتي لهذه الإجراءات هو الذي سيخبرنا عن قريب عن حقيقة حجم كلّ لاعب إقليمي او دولي هناك.
فضاء القوقاز هو فضاء تمّ حسمه بشكل نهائي لصالح روسيا في الحرب العالمية الثانية. ولن تسمح روسيا لأحد مشاركتها به إلا اللهم الدخول في حلف استراتيجي معها، وهو ما تتقنه إيران باستقلالية قرار قلّ نظيرها، وهو ما لن تقدر عليه تركيا لأنها تلعب دور مخلب الناتو رغم كل الضجيج الذي تثيره حول طموحاتها المتهافتة على سواحل البحار الخمسة من الأسود حتى المتوسط والخليج الفارسي.
فنون قتال لا يتقنها إلا كبار العقول.
بعدنا طيبين قولوا الله…