مدرسة «المعلم» الدبلوماسيّة لا تموت
} د. وفيق إبراهيم
وزير خارجية سورية وليد المعلم، رحل عن هذا العالم بجسده تاركاً مدرسة عريقة وشديدة التمكّن في فنون الدفاع عن مصالح الوطن والدولة في أصعب ظروف ممكنة.
هذا يعني أن إرثه الدبلوماسي مستمرّ في عشرات المتخصصين الذين تدرّبوا على يديه وتابعوه من قرب حتى بلغوا مرتبة المتمكنين من «الفن الدبلوماسي» في أحلك المراحل.
لكن هذا لا يعني أن وفاة المعلم ليست خسارة ليس لسورية بمفردها بل لمحور كبير من الجغرافيا السياسية يربط بين البحرين المتوسط والأحمر عند الحديدة في اليمن، وبيروت واللاذقية في بلاد الشام.
لذلك فيجب استخلاص الدروس والعبر من التجربة المديدة لوليد المعلم في عالم الدبلوماسيّة ضمن بلد محاصر ومقطوعة علاقاته الدبلوماسية مع جامعة الدول العربية بمعظم دولها والاتحاد الأوروبي كاملاً وحلف الناتو وأميركا الشمالية والقسم الأكبر من الجنوبية وأوستراليا والجزء الموالي للغرب في أفريقيا وجنوب شرقي آسيا.
بما يعني أن الأميركيين عزلوا سورية منذ 2014 عن معظم العالم، شاملين العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية وحرية الحركة العسكرية الداخلية مع إصرار أميركي على شيطنة الدولة السورية في الإعلام.
فتعامل الوزير المعلم بقليل من الإمكانات مع هذا الهجوم الغربي الذي أدرك حتى حدود الاستعمار العسكري، هنا ظهر الذكاء مع الخبرة والحنكة بأسمى تعبيراته.
كان المطلوب تقديم سياسة الدولة السورية عالمياً، وإظهار معاناة الشعب السوري والربط بين الإرهاب المنتشر على اراضي سورية وبين الدعم الغربي والخليجي بتوثيق شديد الموضوعيّة، ولغة متواضعة هادئة شديدة الإقناع.
على مستوى مشروع الدولة السورية، فقدّمه المعلم على أنه يريد الدفاع عن بلده في وجه إرهاب كونيّ مدعوم، ناجحاً بإظهار التنسيق البنيوي الكامل بين هذا الإرهاب بالتتابع مع الاردن والغرب الأميركي – الاوروبي والخليج وتركيا. هذا الكشف اعتمد أساليب علمية في الكشف عن الطرقات البرية التي دخل منها هذا الإرهاب الى سورية من دول الجوار المرتبطة بكاملها بالخليج وتركيا والغرب.
هذه النقطة الأولى التي ركز عليها قائد الدبلوماسية السورية المعلم متوصّلاً الى ضخ أكبر كمية ممكنة من الحقائق عن هذه التفاصيل.
كما ركز «أبو طارق» في مداخلاته على مدى الدعم السعودي – الإماراتي – القطري، لكل انواع الارهاب، حتى أن التفاصيل التي ذكرها كانت أهم ما نشرته وسائل الإعلام الداخلية والخارجية.
حتى انه نجح بتركيزه على اتهام قطر بمحورية هذا الدور، الى دفع وزير خارجيتها السابق حمد بن جاسم، الى الاعتراف بأن الأميركيين هم الذين كلفوا بلاده قطر والسعودية والإمارات وتركيا بدعم تنظيمات زعم انه لم يكن يعرف أنها إرهابية إلا بعد وقت طويل من عملها داخل الأراضي السورية.
بذلك تمكن المعلم من وضع السعودية والإمارات وقطر وتركيا تحت مرمى اتهامات حقيقية، بأنها الداعم الفعليّ للإرهاب في الشرق الاوسط وبإسناد أميركيّ اوروبيّ.
ولم ينسَ «المعلم» الوصاية الأميركية الأوروبية مسدداً باتجاهها رشقات من مداخلات علمية وإعلامية كشفت خطورة المشروع الأميركي المختبئ خلف كلام عن ديمقراطيات وعداء للإرهاب ليسا إلا خطباً جوفاء لمشروع يريد الامساك بالعالم من خلال تفتيت الشرق الأوسط وقلبه النابض سورية.
كل هذه الاهتمامات لم تمنع المعلم من تخصيص جزء من نشاطاته في سبيل بناء عمل دبلوماسي يزيد من عمق علاقات سورية بتحالفاتها في روسيا وإيران والصين وفنزويلا وحزب الله. محاولاً فتح ثقوب مصرية وإماراتية بدهاء دبلوماسي يجيد فنون الاستفادة من الحاجات المتبادلة.
لذلك لم يكن المعلم يعمل وفق الطريقة العربية التقليدية بالخطابة ونمط من وزراء الخارجية المكتفين بالتعميم والشتم والانتقادات مع قلة معرفة بالتطورات المتسارعة داخلياً وإقليمياً وخارجياً.
تكفي الإشارة الى ان اتصالات المعلم بالسياسيين العراقيين كادت أن تحدث خرقاً في الهيمنة الأميركية على بلاد الرافدين، وتؤدي الى فتح الحدود بين البلدين للتبادل الاقتصادي، فتنبّه الأميركيون مخترعين صراعات مع الإرهاب لإعادة الإمساك بهذه الحدود ومنع تنفيذ أهم خطوة في العقد الأخير كان بإمكانها وضع الارهاب وداعميه الأميركيين والدور الخليجي والتركي المعادي لسورية في وضع مأزوم ومتراجع.
داخلياً كان المعلم حريصاً على تقديم أنواع صادقة من الإعلام السياسي، يوضع بواسطته خطورة المشروع الأميركي التركي الخليجي على وحدة سورية، مستنداً الى حقائق صرفة من أعمال الإرهابيين في التدمير والقتل والسبي ومحاولات إعادة سورية الى القرون الوسطى وتقسيمها مركزاً أيضاً على خطورة المشروع الكردي على وحدة البلاد.
لقد شكلت مداخلات المعلم وسيلة أساسيّة في إقناع السوري الى جانب دور الجيش في الإقناع عبر الانتصارات وقيادة الدولة في وضعها لمخطط الصمود الكبير والعمل عليه مع رفض كل مشاريع التسويات على حساب وحدة سورية.
هذا «المعلم» المعبر عن السياسات الخارجية للدولة، برع في ظروف حصار صعبة وحروب مدمرة، في نقل رسائل الى العالم بأسره عن صمود سورية ورفضها للمهادنات مع تمسكها بوطنيّتها وحرصها على علاقات جيدة بالعالم العربي والتحالفات الدولية، وإصرارها على تحرير الجولان مع اعتبار قضية فلسطين قضية سورية وعربية لا يمكن المساومة عليها.
وأخيراً رحل المعلم متأثراً بمداخلاته ومصرّاً على العمل بها حتى تحرير سورية من حدودها مع الاستعمار التركي حتى جولانها المحتل مع الإسرائيلي، بقيادة الاسد الرشيدة الرمز الحقيقي لعنفوان المنطقة.