ومضة في كلمات…!
} ميساء طربيه*
تتّصف ومضات الشّاعر أمين الذيب بومض الفكر والفكرة، كلاهما يكملان بعضهما البعض، الفكر هو المتسع والمدى الشّاسع الّذي يحتوي الأفكار، يحلّل قديمها، لينتج جديدها، بحثًا عن رونقٍ جديد للمعاني، ولمعةٍ للدّلالات وإضاءةٍ على مواطن الجمال، وسفرٍ نحو كلّ جديد. فالفكر الّذي يقف عند حافة السّؤال، ويطل من شرفة الفكرة، يومض.
الومضة الأولى
«هذا المدى
الّذي اسموه كونًا
لا زال ينمو بين كفيّ
سؤال»
هذه الومضة تضعنا بين كفيّ ميزان، الكون من جهة والسّؤال من جهة أخرى، وهنا استحضرني قول عدنان ابراهيم: «يجب عليك أن تمرّ بمعاناة السّؤال والشّك حتى تفهم الجواب»، فعلى الرّغم من وسع الكون واحتوائه البشر والحجر من أصغر عنصر الى أكبره لا زال في طور النّمو من وجهة نظره، وحين قال «الّذي أسموه الكون» أيّ أنّه غيرُ مقتنعٍ بهذه التّسمية وتقييدها بهذا المدى الفسيح لتمهّد لنا هذه الجملة إلى الكفّ الآخر الّذي يوازيه في الأهمية وهو السّؤال حيث يضعنا الشّاعر إزاء مفهومين، مفهوم عام للمدى وآخر خاص؛ إنّ المدى العام أي الكون الخارجيّ بمكوناته الماديّة والفيزيائيّة، والمدى الخاص بمكوناته الروحيّة والفلسفيّة. وجملة «ينمو بين كفيّ» أصبح الكفّ هنا تربةً خصبةً، والإنسان جزءًا من الأرض وبداخله عنصر التّراب، فهذا الالتحام مع الأرض في بعده المادي الكفّ وبعده الرّوحي الفلسفي السّؤال، وكأنّ الشّاعر يضعنا قبالة السّؤال الأكبر حول الإنسان ودورة الحياة وعلاقته بالموجودات.
إضافة إلى ذلك عندما أورد لفظة الكفّ المرسوم عليه خط الحياة ليرتبط السّؤال هنا بحياة الإنسان بكل تفاصيلها، علاقتها بالوجود فتبرز هذه الومضة عمق الفكر والرّؤيا وتخلخل من خلال السّؤال المدى الثابت والموروثات المتحجرة والإجابات المعلبة، هذه الومضة تلخّص الكون بسؤال وتوازي الكون بسؤال وتوزع الأسئلة على الكون.
الومضة الثّانية
«كفيّ
لا تتسع بحرًا»
تضعنا هذه الومضة إزاء دهشتين، الدّهشة الأولى حيث أتت لفظة بحر نكرة وهنا إذا أخذنا معنى العلم والمعرفة والكتب فكيف لا يتسع داخل كفيه كتابًا لتتجلّى الدّلالة الموازية بالدّهشة وهي بأن كفيه يتّسعان لأكبرَ من البحر ولمعارفَ لا ترتوي، فالإنسان المثقّف هو مَن يشرّع كفيه لينهل العلم والمعرفة، ووضعية الكفّين في حمل الكتاب توازي استواء البحر، وفي تقليبه الصّفحات يشبه حركة الموج على سطحه. إضافةً إلى ذلك إن الكفّ يستخدم في الكتابة أيضًا فهو مثل البحر معطاء.
الكفّ والبحر في هذه الومضة يشبهان بعضهما البعض، الكفّ حين يحمل الإنسان الكتاب يتّجه بذلك من السّطحية إلى العمق في المعرفة لاكتشاف كنوزها، وكذلك البحر تُكتشف كنوزه حين تُسبر أغواره، لفظة الكتاب الغائبة حضرت في لفظة البحر الحاضرة ومن البحر أخذ الشّاعر دلالة الظمأ لتحضر هي الأخرى في سياق الدّلالة لتبرز هذه الومضة عشق الشّاعر المستمر إلى العلم والمعرفة.
الومضة الثّالثة
«القمر واقع في بحيرة
رسمت شراعًا
على ورقة
وانتظرت الرّيح»
تؤدّي مساحة الفراغ في هذه الومضة دورًا بارزًا فبعد كلّ جملة هناك مسافة بين الواقع والخيال، بين الخيبة والأمل، بين التعلّق والتّخلّي، بين السّعي والانتظار، نسج التّضاد وقرّب المسافة بين فضاء الكون وفضاء الورقة. «القمر واقع في بحيرة» لفظتا القمر والبحيرة تضعانا في صورة نمطيّة وهي انعكاس القمر على سطح البحيرة، ولكن اختيار لفظة واقع هي الّتي أحدثت فرقًا، إذا اعتبرنا كلمة واقع أي حقيقة ثابتة بوجودها في الواقع ستأخذنا إلى هذه الصورة لبرهة وبعدها مسافة الفراغ للتفكر بتلك البحيرة الّتي أتت نكرة وتنقلنا إلى مستوىً آخر خياليّ، وبذلك في الجملة الثّانية وضعتنا ضمن إيقاع موسيقي بين الواقع والخيال حين قال: «رسمت شراعًا على ورقة» فالرّسم وظيفة إنسانيّة يمتهنها الرّسام والشّاعر الّذي يرسم بالكلمات، والشّراع هنا يرتبط معجميًّا بالبحيرة وبوجهة السفينة، فأضحت البحيرة ورقة أو أضحت الورقة موازية في الماهية والوظيفة للبحيرة، هذا التّبادل الوظيفي أضاف بعدًا جماليًّا إلى الومضة، فشراع السّفينة هو نسيجٌ واسعٌ يُنصبُ على السّفينة لتهبّ فيه الرّياح، وتدفع السّفينة في إبحارها، وبصورة موازية القلم شراع الورقة. وفي الجملة الأخيرة «وانتظرت الرّيح» حرف العطف هنا أدّى وظيفة واقعية وأخرى خياليّة، الأولى شراع السّفينة للإبحار تنتظر الرّياح بشكل طبيعي والثانية المتعلقة بالكتابة فتصبح الرّيح هنا ريح التّجديد الّذي سيتغلغل في نسيج القصيدة ويبحر نحو معانٍ جديدة، تبدأ في الواقع وتمتد نحو الخيال اللانهائي.
شكّلت الومضات الثّلاث جسرًا من الأسئلة عن بداية الكون إلى ما لانهاية؛ حتّى لو لم يضع الشّاعر علامة استفهام واضحة، إلاّ أنّ الاستفهام واضح كغموض الكون. فالتّوازي بين حركة الكون وحركة الشّاعر، حيث البدء بالأسئلة والاستمراريّة والسّلطة للانتظار المرتبط بالزّمان الّذي يومًا ما سيجيب هذا الزمن عن تلك الأسئلة أو ربما لن يجيب، لنبقى تحت سلطة الزّمن والسّؤال، نحن نستنطق عناصر الكون لنحصل على حقيقة ما وربما هذه العناصر تسألنا ونحن وهي، ننتظر.. الألفاظ الكون/البحر/البحيرة وكأنّنا ننتقل من السّؤال الأكبر وهو بداية التّكوين إلى السّؤال عن الوجود (ماهيته، الهدف..) إلى سبل وطرق الوصول إلى الإجابة والّتي تمثلت هنا بالانتظار، أما الانتظار المتعلّق بريح التّجديد الأدبيّ والشّعري والفكريّ، فهذا يعتمد على الزّمن الّذي نعلّق عليه آمالنا وأفكارنا وحياتنا ووو…
*عضو ملتقى الأدب الوجيز.