تأليف الحكومة «مكانك راوح»
علي بدر الدين
الجولة التاسعة من المشاورات حول تأليف الحكومة، بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والرئيس المكلف سعد الحريري، وما تسرّب من معلومات، وتخللها من تباين، في مقاربة التأليف، حجماً وشكلاً وحقائب وأسماء وعنواناً. ليس وليد ساعته، بل هو نتيجة تراكمات سابقة، وتأجيل متتال، لبعض مفاصل التأليف ومحطاته منذ التكليف، وما شابَهُ من تردّد وحيرة ورهانات على الخارج الإقليمي والدولي، وانتظار الإنتخابات الأميركية التي أدّت الى فوز المرشح الديمقراطي، غير أنّ تداعياتها لا تزال تضغط على لبنان، المحاصر بالعقوبات والشروط والتهديدات الأميركية، والتي ستبقى سيفاً مصلتاً على الطبقة السياسية الحاكمة، ثم انتظار تسلّم المرشح الفائز رئاسة أميركا، إذا لم تحصل مفاجآت في الداخل الأميركي أو خارجه، تقلب المعادلات، وتجعل من لبنان «فرق عملة»، خاصة أنّ بعض طبقته السياسية وضعت «بيضها كله في السلة» الأميركية، وربطت تأليف الحكومة، وكلّ ما يتعلق بأوضاعه الإقتصادية والمالية، والقروض والهبات والمساعدات به، ولا بديل لها سوى انتظار التحوّلات والتسويات وتقاطع المصالح الدولية والإقليمية، علها تقدّم لها جرعة انتعاش، وقوة دفع لتحريك عجلة دورانها التي عطلها الارتباط في الخارج وبيعها قرار لبنان، فضلاً عن صراعاتها التي لا تنتهي، وسياستها الالتوائية التي عمادها الفساد والنهب والتحاصص، وحماية مغانمها ومكاسبها وحصصها، حتى لو سقط لبنان ودولته ومؤسّساته وشعبه، أو تحوّل إلى أثر بعد عين.
من «إنجازات» هذه الطبقة التي يعتدّ فيها، أنها نجحت في وأد المبادرة الفرنسية، قبل أن تولد، ونعَتها مسبقاً، رغم تبنّيها والاعتراف بها، ولكنها أنكرتها وتخلت عنها، بسرعة البرق، لأنها وجدت في بنودها وشروطها، وخاصة الإصلاحية منها، ما يلحق الضرر في مصالحها، ويقوّض أساس فسادها، ويحدّ من جشعها ونهمها وتوحشها وساديتها، في قهر اللبنانيين وتعذيبهم وإفقارهم وتجويعهم، ومصادرة حقوقهم.
قد لا تكون المبادرة الفرنسية، نموذجية او يمكن التعويل عليها لإنقاذ البلد وإعادته إلى «عصره الذهبي»، أو انها ستعيد أموال الدولة والشعب والمؤسسات المنهوبة من الذين عاثوا في الأرض فساداً، وبالدولة نهباً، وبالشعب ظلماً وسحقاً.
ما كان مأمولاً من هذه المبادرة اليتيمة التي تخلى عنها الأصدقاء قبل الخصوم، أنها ربما نجحت في زرع بذرة مؤصلة في صحراء الفساد والجفاف والتصحّر، تعيد أملاً متواضعاً وبسيطاً، كان مفقوداً أو مصادراً، لا أكثر، خاصة أنّ فرنسا ليست «كاريتاس» ولن تكون كذلك، لأنّ لها مصالحها وسياساتها التي لا تبيعها بالمجان، بل بثمن يوازي وقد يفوق ما تدفعه.
إنّ أزمات لبنان، ليست ناتجة فقط عن المصالح الخارجية والتدخلات في شؤونه، كما غيره من الدول الصغيرة والضعيفة، المحكومة من أنظمة وطبقات سياسية فاسدة ومستبدة ومتسلطة، لا همّ عندها سوى تحقيق مصالحها وتكديس ثرواتها، ومواصلة الإمساك بالسلطة، وخنق الشعب وتكبيله واستدراجه، إلى ما تخطط له، ليشكل جدارها الإسمنتي ويحميها ومصالحها، مع أنه، هو الذي يدفع الأثمان الباهظة، وهو الرهينة، ولنا مثال واضح وحيّ في الشعب اللبناني، الذي أتاح بصمْته المريب، للطبقة السياسية بإغراقه بوحول طائفية ومذهبية وسياسية، وهو يشغل نفسه بحثاً عن «قشة» إنقاذ منها من دون طائل.
إنّ سخونة الجولة التاسعة من لقاءات التأليف، هي بمثابة «الشعرة التي قصمت ظهر البعير»، وقد تطيح بالوعود والآمال التي سوّق لها إعلامياً بعض جهابذة السياسة لـ «غاية في نفس يعقوب»، وهم يعلمون أنّ ما يحصل على مستوى التأليف وهم وسراب، بحيث أنّ هذه اللقاءات والمشاورات لم تنتج بعد، أية إيجابية أو إزالة أية عقدة مهما كانت صغيرة من أمام عربة التأليف، يمكن اعتمادها كمؤشر لبعث الأمل والتفاؤل في نفوس اللبنانيين المتعطشين إلى سماع أو رؤية أيّ أمر مفيد، قد يعجل بأيّ حلّ مهما كان وضيعاً.
بعد شهر على التكليف، يصحّ القول «مكانك راوح» وكأنّ الطبقة السياسية لم تبدأ بعد مشاورات التأليف، لأنه لغاية اليوم لم يتمّ التوافق، لا على عدد الوزراء، ولا على توزيع الحقائب، ولا على الحصص، ولا على الأسماء ومن يسمّيهم… يعني لا حكومة قبل أشهر، ولا حلول ولا إنقاذ، ولا من منقذين، والرهان في هذا المجال على الطبقة السياسية والمالية الحاكمة فاشل وساقط، والشواهد أمام الجميع…