الأمين ميشال نبعة المميّز في الكثير
في أربعين المسرحي الأمين ميشال نبعة بنفسجة بيضاء على صدر النهضة
الوزير إلياس حنا: ستنتصب على اسمه مؤسسة ثقافية في جون
د. يوسف كفروني: كان الملتزم الصلب في كل نشاطاته الثقافية مسرحاً وكتابة
نضال الأشقر: ابن النهضة الوسيع الثقافة
الأمين ميشال نبعة وقد نشرنا عنه نبذة بتاريخ 20/10/2020 يستحق، للكثير ممّا تمتع به من حضور لافت في المسرح، في الأدب، وفي الحزب، أن يصدر عنه كتاب يغطي سيرته ومسيرته الغنيّتين، إلى ما كانت نشرت له مجلة «البناء» في أكثر من مناسبة.
إني، وقد عرفته جيداً، أنحني إجلالاً أمام روحه، وأهتف له، كما كان يفعل كلما التقى رفيقاً من رفقائه: تحيا سورية.
أنت باقٍ يا أمين ميشال في تاريخ حزبك، في ذاكرة محبيك، ودائماً أنت تبقى مجلياً في سيرتك وفي مسيرتك النضالية، صافياً، نقياً، مثقفاً، متفانياً، محباً، منصرفاً للعمل الحزبي بكل ما وُهبت من عقل وإرادة وتصميم. البقاء للأمة يا أمين ميشال. نحبك.
ل. ن.
*
بدعوة من عمدة الثقافة والفنون الجميلة في الحزب السوري القومي الاجتماعي، أُقيمت عند الساعة السادسة من مساء الأربعاء 19 شباط في قاعة النهضة ندوة تكريمية في مناسبة ذكرى الأربعين لغياب الأمين ميشال نبعة، الذي عُرف خلال سنوات حياته بدوره الكبير في التأسيس للمسرح اللبناني وحضوره الفاعل كمناضل في الحزب السوري القومي الاجتماعي.
حضر الندوة عدد كبير من الشخصيات الرسمية وكوكبة من كبار فناني المسرح، والمثقفين ورفقاء الفقيد.
في مقدمة الحضور كان رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي الأمين علي قانصو، وأعضاء مجلس العمد والمجلس الأعلى والوزيران أسعد حردان وإلياس حنا والنواب مروان فارس وغسان مطر وعدنان عرقجي، ومسرحيون بينهم: أنطوان كرباج – إلياس الرحباني – هدى حداد – شكيب خوري – منير كسرواني – غازي قهوجي، وكتاب ومثقفون بينهم: ليلى عسيران – هنري حاماتي – يوسف سلامة – حليم جرداق – كلوديا أبي نادر – غادة فؤاد السمان – باسمة بطولي – ياسين رفاعية.
ووقف الجميع دقيقة صمت احتراماً وإجلالاً للراحل، وقدم الشاعر مردوك الشامي كلمة قال فيها: «الذين عاشوا فترة الستينات ونهضتها المسرحية يذكرون جيداً ميشال نبعة… يذكرون الأدوار التي لعبها في ماكبث وهاملت شكسبير وذباب سارتر وإزميل أنطوان معلوف والملك يموت ليونسكو وفاوست لفونيه، ديكتاتور عصام محفوظ، وإضراب الحرامية ونضال الأشقر.. ويعيش يعيش والأخوين رحباني.. وستارة رضا كبريت.. وأعمال أخرى.
وكما كان رائداً في الفن، كان رائد فكر وسياسة والتزام.
ثمّ ألقت سيدة المسرح في لبنان نضال الأشقر كلمة مؤثرة جاء فيها:
حضرة الأمين الجزيل الاحترام ميشال نبعة، أيها الوجداني الوجودي المرهف، عشت ومتّ بشفافية مطلقة جارحة كحدّ السيف. عشت ومتّ وحيداً مغلفاً بوحدة النُسَّاك المطلقة، أيضاً ناضلت وجاهدت وأعطيت وضحيت ولم تكن على عجلة من أمرك إلا في موتك.
أما حياتك فكانت هذا النقيض المعقد من اللامبالاة والارتباط الكامل. عشت ومتّ شفافاً خفيفاً وكأنك من زجاج قديم.
قامة بيضاء كريستالية الوضوح. دخلت شفافيتك وغبت تاركاً وراءك حلمك الكبير بأن تشارك بنهضة ثقافية فنية جديدة تحمل الوعي والانفتاح إلى شباب النهضة. كنت تعتقد أن بالثقافة وحدها يستطيع الحزب أن يميز نفسه في هذا المجتمع الاستهلاكي الكبير.
عشت ومتّ خفيفاً حذراً خائفاً من أن تُثقل على أحد، مغامراً مغامرة العاشق الشاب. أما حذرك فحذر الكبرياء التي لا تريد أن تنخدش.
عندما كنت أراك مُلَمْلَماً ومنتصباً كالرمح الأبيض ومهفهفاً، كنت أعجب وأتعجّب من هذه القدرة على المثابرة الدائمة، وجمع نفسك وعقلك بإتقان وتأنّ ثم الخوض في مغامرات جديدة داخل المؤسسة وفي كل الميادين، وكأنها المغامرة الأولى أو الحب الأول.
حملت أمانتك على رأسك كإكليل غار وأنت ابن النهضة الوسيع الثقافة، ومتّ وإكليلك على رأسك وأنت تعرف أننا جائعون إلى الثقافة والمعرفة وإلى الإنتاج والمثابرة والحوار.
بينك وبين المال كانت عداوة دائمة، وكأنك كنت تخشى أن يتهمك أحد باليُسر، أو أن يتهمك أحد أنك أخذت من المؤسسة أكثر ممّا يَسُدّ رمقك.
الأمانة تليق بك، حملتها كإنسان مثقف طليعي حديث الإطلالة دائماً.
نعدك أن نرفع اسم الحزب عالياً في ساحات المعرفة والفكر والثقافة، وسنحمل صداقتك يا رفيقي ميشال نبعة بنفسجة بيضاء على صدر هذه النهضة».
*
وقال عميد الثقافة الدكتور يوسف كفروني: «منذ انتمائه إلى الحزب، شكّلت ثقافة النهضة فضاءه الفكري ودليل أعماله ومواقفه. كان الملتزم الصلب والمواجه العنيد في كل نشاطاته الثقافية: مسرحاً وكتابة، وإدارة تحرير ونشر وعمدة.
كتب ميشال نبعة عن الثقافة في مجلة «البناء» 27-4-74 مقالاً بعنوان «الثقافة المقاتلة»، مؤكداً على البعد الواقعي والمجتمعي للثقافة، رافضاً التسطيح والاغتراب وخليط الأشكال الثقافية التي تدّعي التراث والانفتاح، والتي تشكّل مزيجاً مريباً من عفن التراث وثقافة البالات.
وفي مقالة أخرى له عن الثقافة بعنوان «الانتقاء والتوفيق» (البناء 13-7-74)، يهاجم بعنف الانتقائية والتوفيقية، ويعتبر أن التوفيق هو نقيض الصراع، نقيض الثورة ونقيض النهضة. ويرى أنّ الذي يمارس الانتقاء والتوفيق في الثقافة هو عملياً خارج كل القضايا، هو عاطل عن القضية، ولا يملك الرؤية الكاشفة، لأنه عديم الشخصية والثقة وانتهازي. ومن يكن بدون قضية هو حكماً بدون ثقافة، لأنه كما يقول: لا توجد ثقافة بدون قضية.
ومن ضمن هذا التصوّر للثقافة كان رأيه في «المسرح المنتمي» (البناء 20-4-74)، فالمسرح كما يقول: «واحد من أحفاد الاحتفال المجتمعي، وهو بالتالي وريث حضاري لظواهر أنماط الاجتماع البشري المتطورة، وهو استمرارية الخروج من الذات وحتمية التواصل الوجودي بين الخلايا المجتمعية». ويؤكد أن القضية الفردية غير قابلة للمسرحة، لا شكلاً ولا مضموناً.
اجتمع عدد من الكتاب العرب واليهود في فلسطين المحتلة، ومن ضمنهم سميح القاسم الذي حمل سابقاً لقب شاعر المقاومة ثم هوى مع غيره من أدعياء الثقافة في وحل الاستسلام الخياني للعدو والتبويق لمشاريعه، وذلك سنة 1974، إثر هذه الحادثة مباشرة، كتب ميشال نبعة ثلاث مقالات متتالية، تكشف غضبه العام على أدعياء الثقافة، الذين وصلوا إلى المرحلة العلنية الوقحة، في الإفصاح عن الأهداف الصهيونية باتجاه السطو الحضاري واختراق التراث والهيمنة الثقافية. (البناء 17-8 و24-8 و31-8-47).
وكتب مقالين عنيفين ضدّ المطران يوسف ريّا، راعي أبرشية حيفا، الذي مالأ السلطة اليهودية في إحدى مقابلاته، واعتبرها عادلة، متنكراً لرعيّته المنكوبة والمشردة من قبل هذه السلطة. ويسأل نبعة: ما هو رأي السينودس، الذي ضاقت عينه بالمطران غريغوار حداد، وترك يوسف ريّا يلخبص بالحق القومي واللاهوت، مترقوصاً بين ظلم الملاك وعدل الشيطان. (البناء 7-8 و14-8-74).
وفي مقال مميز له بعنوان «الاستعمار التوراتي»، (البناء 9-11-74) هاجم بعنف تهويد المسيحية في الكنائس، التي أخذت في الآونة الأخيرة تعطي أهمية متزايدة للعهد القديم، بخرافاته وأساطيره واختيار يهوه إله التوراة لشعب خاص ومميز عن باقي الشعوب. ويردّ على مجلة «نور الحياة» الدينية المسيحية التي تمجد الشعب اليهودي ويسأل: لمصلحة من كان تكريس الهالة التوراتية؟ ومن هي الجهة المستفيدة من ربط المسيحية بما سُمّي لاحقاً بالعهد القديم، تمهيداً لدقّه إسفيناً في قاعدة العهد الجديد؟ ويقول: لا نظنّ أن الآباء الأجلاء بحاجة إلى مرافقتنا في جولة تاريخية لتتبع مراحل انتشار الدعوة المسيحية، وللتأكد من أن الإقبال على الدعوة لم يكن بفضل، ولا بمساهمة أسفار العهد القديم التي روت «مراحل إعداد البشرية لاستقبال المخلص». فقد وصل المسيح إلى البشرية قبل أن تصلها الأسفار المفترض فيها «إعداد البشرية لاستقباله».
*
وكانت كلمة الختام لوزير الدولة الأستاذ إلياس حنا الذي قال:
كرّس حياته لعقيدة وحيدة، غلّفته فأعفته يافعاً من مرارة يتم الطفولة. وانصرف إلى عقيدته انصراف المؤمن إلى ممارسة طقوسه الإيمانية: تشبّع من الثقافة القومية، وقطف من ثقافة زعيمه كتابات جعلته مسؤولاً عن الفكر العقائدي، في غير منير إعلامي للحزب.
ترسّل لعقيدته طوال حياته وبها آمن، فوشّحته بالأمانة، وأكثر: في الزمان الجلل، ظل يؤتى إليه، حتى أضحى عميداً معمّداً بالرئاسة.
عمل في المسرح، هواية ورسالة، فأدى أصعب الأدوار، وكانت له البطولة من حجم عطاءاته، فأغنى أدواره بشخصيته الرحيبة، هو النبيل الملامح والمشاعر، وأرضى ذائقة مشاهديه بمحبتهم أداءه.
عشق الجمال والتراث، فأنطق الحجر بنبضات الحياة. وأحب جون، جونه التي ظلّ وفياً لأهلها وترابها، فبادله أهلها الحب حين أحدث نعيه مأتماً في كل بيت، وبادله ترابها بأن حضنه في قلبه حضانة الأرض لحبة القمح كي تطلع السنابل في الموسم التالي.
هكذا مات، مات ميتة المؤمن، هازئاً بسخرية الموت، انطفأ شمعة في معبد، كما سراج المؤمن حين يجف زيته يستسلم لمشيئة ربه. وهكذا يرحل الكبار مدركين أن غيابهم سيظل أقوى من الحضور. وهو ذا بالفعل غيابه اليوم أسطع من حضور: فها هم رفاقه الأوفياء يستذكرونه بينهم رفيقاً في النضال وأميناً وعميداً ورئيساً لمجلس العمد، وها هي جون حفرت في ذاكرتها طيفه الحاضر أبداً في فلوات الوساعة، تحقق له أمنيته التي طالما تحدث عنها: أن تنتصب على أرض جون مؤسسة ثقافية واجتماعية تترجم توقه الدائم إلى الكتاب والكلمة وإنسانية الإنسان.