« Twittérature» أدب الما بعد
} الحبيب الدائم ربي*
نروم في هذه الإطلالة تسليط الضّوء على مُقترح إبداعيّ في الكتابة ما انفكّ يتبلور في السّنوات الأخيرة، ضمن الفضاء الرّقمي والتّواصلي. سنصطلح عليه، مؤقتاً، بـ«صفير البلابل» أو «لسان الطير»، ولنا في ذلك أكثر من دعامة قد تسند هذا التّوسيم. لا سيما أن كثيرًا من المستجدات التكنولوجيّة دأبت على استلهام روحها من أصول واستعارات قديمة. من بينها أنّ هذا الجنس الخطابي الوجيز يحيل إلى «لغة الطير»، بما تحمله من إيحاءات مرجعيّة تراوح بين الدّيني والأسطوري. فكما في الكتب المقدسة والأليغوريّات كان لفريد الدين العطار (ق. 12م) ملحمة شعريّة من آلاف الأبيات (4600 بيت) بعنوان «منطق الطير» سعى فيها، هو الصّوفي، وعلى غرار جلجامش، إلى البحث عن «شجرة الخلود» التي يتفيأ ظلها طائرُ السّيمورغ الخرافيّ، في رحلة رمزيّة، تجندَ لها حوالي ثلاثين طائرًا مختلفًا، قادها الهدهدُ بما يُحيطه من غموض وإثارة. وهذا المطلب المستحيل، الشبيه بارتقاء المعارج لبلوغ مقام السّالكين لدى الصّوفيّة، كناية على انفلات الحقيقة من شباك اللّغات كلّها. أو تمنّع المعدودات على العدّ، كما هو الحال في التّسمية التي حملها محرّك غوغل التي تفيدُ العدد عشرة أُسّ مئة، أي واحداً وعلى يمينه مئة صفر، وهو رقم لا يمكن تخيّله. إنّه غاية الغايات إن صحّ التعبير. فعلى رأي النّفري «كلما اتّسعت الرؤية ضاقت العبارة» لينطوي الجُرم الأكبر في الجُرم الأصغر بلغة إبن عربي. ولربما لهذا الاعتبار تم الانتصار لــ «لغة الطير» في واحد من أشهر مواقع التّواصل الاجتماعيّ، وهو موقع «تويتر» أي المغرِّد أو البلبل الصدّاح، الذي اشتقّ من فعل « تو تويت» to tweet الإنجليزي، أي غرّد وزقزق. وكما نلاحظ فإنّ هناك تشاكلًا صوتيًّا ودلاليًّا بين لفظي «تويتر» وطويَر (تصغير طائر) العربيّة. بل ونرجّح أن يكون الاسم العربيّ هو الأصل. تم انتقاؤه، باعتباره وسْمًا يناسب فضاءً للإيجازات المختلفة. نقول «الإيجازات» لأنّ هذا الموقع، بالخصوص، يحدّد سقفًا لعدد الكلمات الذي لا يمكن تجاوزه (140 كلمة)، بخلاف المواقع الأخرى التي قد تتيح مساحات أوسع للتّدوين. ولا يُخفى أن مواقع التّواصل الاجتماعي، عبْر حواملها الضّوئية، لبّتْ انتظارات شريحة واسعة من النّاس إلى جانب المبدعين وكتّاب المقالة والقصّة القصيرة جدًّا والومضة والهايكو والشّذرة والنّثيرة وغيرها، بيْد أنها فتحت المجال لما يشبه «الفوضى الخلاقة» التي تجاورَ فيها الأدبُ مع قلة الأدب، والرّكاكة مع البلاغة، والإبداعُ مع الغثاء. مما أغرق المجرة العنكبوتيّة في الرداءة والابتذال. وهذا الوضع المنفلت جعل السّيميائيّ الإيطاليّ إمبرتو إيكو يموت وفي نفسه كثير من حتى. ذلك أنه لم يستسغ أن يتبوأ التافهون الصّدارة فيما يتوارى خلفهم المبدعون الحقيقيون. لا لأنّه لم يكن يؤمن بمقولة ماوتسي تونغ. «دعْ ألف زهرة تتفتح» وإنّما لأنّه كان يرى في كثير من هؤلاء مجرد أشواك وطحالب قد تعيق تطور الفعل الأدبيّ.
إلا أننا من جهتنا، وفي إطار ديموقراطية الثقافة، لا نجد مبررًا لرفض «الإيجازات»، على علاتها. بل ونعتبرها داخلة في مجال «التويتيراتور» أي أدب التغريد، ما دام مصطلح الأدب بدوره غامضًا، ويشمل مختلف الخطابات بما فيها «الإعلانات واليافطات» وسواها، إلى درجة أنّ الحدود بين الأدب وما ليس أدبًا تكاد تكون معدومة، حسب عبد الفتاح كليطو. لهذا فإنّ الشّق الذي يعنينا هو الشّق الذي يحقّق «أدبيةّ نصيّة» ضمن «التويتيراتور»، سنطلق عليه twittécriture كتابة الأغاريد، ونعني بها ما بات يتشكّل من نصوص تلفظيّة وفونولوجيّة وصورولوجيّة وأيقونيّة التي تشتغل كتابيًّا بوعي إبداعيّ ونقديّ، متحديّة بذلك شروط التّقييد والتّحديد بلزوم ما يلزم وما لا يلزم. من أجل خلق ما أطلق عليه الرّاحل الأستاذ أمين الذيب «رؤية تجاوزيّة للفعل الأدبيّ».
صحيح أنّنا اليوم، إذا جاز التعبير، أمام فسطاطين: الفسطاط الورقيّ والفسطاط الرقميّ، مع وجود فئة مخضرمة تراوح في البين بين. وصحيح أنّ «الأدب الوجيز» يتوزّع هذه الأرباض على اختلافها. ولأنّ الشّرط الرقميّ يختلف عن الشّرط الورقيّ فإنّ المواكبة النّقديّة لهذا الفيض ماتزال لم تنخرط بعد في الإبدال الرقميّ من منظور جديد. مادام كثير من النّصوص المنشورة في الوسائط هي نصوص ورقيّة بحامل رقميّ، مما يتطلّب التّمييز بين الكتابة المرقمنة والكتابة الرقميّة. بحيث وجب التّأكيد، بالأساس، إلى ضرورة الانتباه إلى «التويتراتور»، بما هي باراديغم (أي نموذج إرشاديّ) جديد في الكتابة، ظهر سنة 2006 وشرع في تحقيق تراكم لافت، لدى فئة من المغردين، خارج التّجنيسات التّقليديّة، إنّه مقترح جمالي يتقصّد «فهم أقصى ما يمكن بأقل ما يمكن من أدوات كتابيّة». من دون أن يعني ذلك سعيه لإفقار اللغة، وإنّما على عكس ذلك، فكونه ينهض على مرتكزات تتصل بالأدب وعلم اللغة وعلم الأعلام والتّواصل يتيح له تحقيق اختراقات فنيّة في غاية الأهميّة.
نحن نعلم أنّ الأشكال الوجيزة ليست بلا تاريخ، وإنما كانت موجودة بوجود الكتابة والأدب تحت تسميات متعددة، إلا أن كتابة التغريد لها سماتها المخصوصة منها:
– الوجازة اللفظيّة، وهي ليست خصيصة نوعيّة، وإنما هي قيدٌ خارجي تفرضه المواقع التّواصليّة على كل الإيجازات.
– الالتزام بالتّيمة، موضوع الكتابة (الألوان، الحواس، الطبيعة…).
– الالتزام الأجناسيّ (هايكو، شذرة، ومضة، قصة قصيرة جداً…).
– التّقيد بكثير من الإكراهات الأسلوبيّة (السّخريّة، المعارضة، المقارنة، المحاكاة…).
– تحقيق إبداعيّة فائقة أو ما نصطلح عليه تحقيق الـ»غوغل» الفني والجمالي…
صحيح أنّ هذه الممارسة الكتابيّة الجديدة، لها نظائرها الورقيّة الشّائعة بالمدارس والأندية وورشات الكتابة، لكنّها تختلف عن هذه التّمارين البيداغوجيّة في كونها، في السّياق الرّقمي، لم تعُد مقصورة على «ناشئة الأدب» وإنّما غدا لها مؤسّسة خاصة بها «معهد التوتيراتير المقارنة» هدفها إنتاج نصوص أدبيّة مشحونة فنيًّا ودلاليًّا، لا تخلو من غرابة وإبهار. إنّه خيار بلاغي فائق التّركيز والدّقة تبناه كتاب راسخون، أبدعوا فيه نصوصًا وجيزة وامضة على قدر كبير من الفنيّة والإبداع، نصوصًا بعضها آني وحواري. ولمن شاء من المتلقين أن يطّلع عليها أن يقبل شروط التّسجيل في المنصات الخاصّة بها ويقبل «إزعاجها»، على رأي أحد الباحثين، وهــي تومض تباعًا أمام ناظريه بشكل تفاعليّ. وليس أمامه حقّ التّعليق وإنما حقّ «التّغريد» البديع في ما يشبه مناظرات الطّيور وهي تصدح.
إنّ هذا النّوع من «الكتابة الوجيزة» يفرض اجتراح أدوات منهجيّة جديدة لتأطيره منهجيًّا، وقراءته وفق أدوات نقدية مكثفة، وجيزة، ووامضة، لا مشاحة في أن نطلق عليها Twitritique أو نقد الزقرقات.
* تجدر الإشارة إلى فعل غرّد يتخذ صيغتين إملائيتين كلتاهما صحيحة: twit, tweet
* صديق ملتقى الأدب الوجيز من المغرب.