القوات الأميركية وجدلية الانسحاب من شمال شرق سورية
} أمجد إسماعيل الآغا
بات من الواضح أنّ عبارة «الانسحاب من سورية»، التي يطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب وأركان إدارته بين الفينة والأخرى، لم تعد مستغربة لدى الكثيرين، حتى أنّ مفردة الانسحاب الأميركي من شمال شرق سورية، وما يتبعها من توقعات وسيناريوات وهواجس لدى حلفاء واشنطن وحتى في المحور المناهض لسياستها، كلّ ذلك يوظف في سياقات متعدّدة تأتي في أطر الضغط على حلفاء واشنطن، ومن جهة أخرى من أجل ترتيب أوراق المشهد المستجدّ في الولايات المتحدة، لا سيما عقب فوز جو بايدن وهزيمة دونالد ترامب، في أكثر الانتخابات الأميركية جدلية.
في جانب موازٍ، غالباً ما تترافق معادلة الانسحاب من سورية، باتهامات تجاه ما يسمّى «الدولة العميقة» بأنها ستتولى العبث بالأوامر الرئاسية والتلاعب بالإجراءات المؤدّية إلى تحقيق الانسحاب، إلا أنّ هذا التوجه أخذ منحىً أكثر جدية مؤخراً في ظلّ وجود دوافع تحركه، وأشخاص قادرين على إنجازه.
وزير الدفاع الأميركي الجديد كريستوفر ميلر الذي عيّنه ترامب بدلاً من مارك إسبر، أبدى عزمة على تسريع سحب قوات بلاده من الشرق الأوسط، وبذات الأسلوب ردّد ما قاله ترامب في مناسبات عديدة «حان وقت العودة إلى الوطن»، و«جميع الحروب يجب أن تنتهي». لكن في المقابل، فإنّ هناك جزئية ترفع من جدية تصريحات ميلر، تتعلق بتعيين الكولونيل دوغلاس ماكريغور بمنصب المستشار الأول للبنتاغون، الأمر الذي اعتبره خبراء السياسة الأميركية مؤشراً واضحاً على نية البنتاغون الإسراع في سحب القوات الأميركية من مناطق عدة في الشرق الأوسط بينها سورية، وذلك قبيل انتهاء ولاية الرئيس ترامب، خاصة أنّ ماكريغور معروف بدعواته المتكرّرة لانسحاب القوات الأميركية من سورية، ويعتبره ضرورياً لـ «انتفاء مصالح الولايات المتحدة في المنطقة»، ويرى أيضاً أنّ بلاده «تحتاج إلى الاستماع بعناية شديدة إلى الإيرانيين ومعرفة ما هي مصالحهم والبحث عن المجالات التي يمكننا التعاون فيها».
ضمن ذلك، طفت على سطح المشهد الأميركي والتوجهات الجديدة لـ ترامب، مؤشرات عديدة تؤكد عزمه على تنفيذ الانسحاب قبيل انتهاء ولايته، إذ أنّ حجم الإقالات التي جرت في وزارة الدفاع الأميركية في الأيام الأخيرة، والتي وصفتها صحيفة «واشنطن بوست» بأنها «عملية تطهير»، طالت بالإضافة إلى مارك إسبر، كلّ من وكيل وزارة الدفاع للشؤون السياسية جون أندرسون، ووكيل وزارة الدفاع للاستخبارات جوزيف كيرنان، ورئيس أركان البنتاغون جين ستيوارت؛ ليستبدل الثلاثة بموظفين أكثر ولاءً لأجندة ترامب السياسية.
عطفاً على ما سبق، فقد تلقف الإعلام الأميركي التجاذبات في أروقة البيت الأبيض وكذا وزارة الدفاع الأميركية، واصفاً إياها بـ الانقلاب الذي تمّ التخطيط له على مدار أشهر لإطاحة بعض قيادات «البنتاغون»، إفساحاً في المجال أمام سيطرة الرئيس الأميركي على المؤسسة العسكرية، ومن ثم المبادرة في توجيه بعض السياسات قبل انتهاء وقته في البيت الأبيض.
ما وصفه المبعوث الأميركي الخاص بالملف السوري المستقيل من منصبه جيمس جيفري، بقوله «ممارسة لعبة الكؤوس والكرة»، بغية خداع ترامب المعروف عنه عدم اهتمامه بالتفاصيل، ترجمه المبعوث الخاص السابق لوزارة الخارجية الأميركية للملف السوري فريدريك هوف لـصحيفة «نيزافيسيمايا غازيتا» الروسية، حين أوضح أنّ ماهية اللعبة التي أشار لها جيفري، تتلخص بـ إحدى طرق نشر أعداد مختلفة من القوات الأميركية في سورية تتمثل في تعيين بعضهم كـ «دائمين»، أيّ كقوات أساسية للعمليات، وتسمية الآخرين «مؤقتين». ويمكن أن تكون هذه وحدة وصلت، على سبيل المثال، إلى سورية من العراق، لإسناد القوات الرئيسية لفترة محدودة. وقال: «من الممكن استبدال القوات المؤقتة المنسحبة من سورية، ما يجعل من الممكن نشر المزيد من القوات على الأرض، وعددها يفوق تلك التي يتمّ إرسالها إلى هناك على أساس دائم».
للوهلة الأولى وضمن ما سبق من تصريحات أميركية وتفنيدها، مع إسقاطها على واقع المنطقة، يتضح لنا بأنّ دونالد ترامب يسعى إلى هندسة واقع في الداخل الأميركي، يبقى ظله مهيمناً على البنتاغون وغالبية المؤسسات الأميركية، لكن وضمن المحدّدات الأكثر عمقاً، يبدو أنّ ما يحرك ترامب هو الانتقام من خصومه في الحزب الديمقراطي، ومحاولاته تعقيد الأمور قدر المستطاع، وتحديداً خلال فترة حكم بايدن، وذلك بغية توجيه رسالة إلى الذين صوّتوا لصالح بايدن بأنّ خيارهم كان خاطئاً، وبأنّ المشاكل ستلاحق الأميركيين الذي ابتعدوا عن ترامب، وبذلك يتمكن ترامب من التمهيد لإزاحة الديمقراطيين عن السلطة مع نهاية ولاية بايدن.
حقيقة الأمر، أنّ دونالد ترامب وبصرف النظر عن نظم الواقع الذي يريده في الداخل الأميركي، إلا أنّ عوائق الانسحاب من المنطقة كثيرة ومتعددة، ويمكن إيجازها بالآتي:
أولاً– لا شك بأنّ الولايات المتحدة يهمّها في المقام الأول أمن الكيان «الإسرائيلي»، فالوجود الأميركي شمال شرق سورية وتحديداً في منطقة التنف، يهدف إلى منع الدولة السورية وحلفاؤها وتحديداً إيران، من تأسيس قواعد متقدّمة قد تشكل تهديداً مباشراً لأمن «إسرائيل»، وبالتالي قد يكون الانسحاب الأميركي من أفغانستان والعراق وارداً، لكن من سورية فإنّ هذا الأمر يحتاج إلى حسابات استراتيجية لا مناخ لترسيخها في الوقت الحالي.
ثانياً– الترابط العضوي بين القوات الأميركية وقوات قسد، يضع الانسحاب الأميركي في إطار التدمير الذاتي لـ كافة أدوات الأميركي في شمال شرق سورية، خاصة أنّ «قسد» وداعش هما أداتان للاستثمار الأميركي، وبانسحاب القوات الأميركية فإنّ المصالح الأميركية ستكون عرضة لتهديدات جمة، وقد سبق أن اعترض أعضاء الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الكونغرس، على عزم ترامب الانسحاب من شرق سورية معتبرين ذلك تهديداً للمصالح الأميركية.
ثالثاً– جزئية الوقت المتبقي لـ ترامب في رئاسة الولايات المتحدة، تفرض مشهداً من الصعب تجاوزه أو تحقيق ما يصبو إليه ترامب، كما أنّ الدولة العميقة لا ترغب بانسحاب القوات الأميركية من شمال شرق سورية، وهي قادرة على إجهاض قرار ترامب، لأسباب لوجستية وأمنية، لكن في المقابل قد يسمح لـ ترامب بإعادة بعض القوات، مع الإبقاء على ما يكفي من جنود في إطار التمثيل الأميركي عسكرياً في سورية، إلى حين قيام إدارة بايدن بإعادة وضع القوات إلى ما كان عليه في السابق.
في الخلاصة، انسحاب القوات الأميركية من سورية، هو أمر صعب التطبيق في ظلّ التوقيت السياسي والعسكري الذي تشهده سورية، كما أنّ هذا القرار يفوق قدرة ترامب لسبب جوهري يتعلق بأمن الكيان «الإسرائيلي»، وكذا المصالح الأميركية بعيدة المدى في المنطقة، فالاستثمار في الملف السوري سيستمرّ مع الإدارة الأميركية الجديدة، ولن يسمح لـ جو بايدن الاقتراب من هذا الملف أو استثماره، والأرجح أن يقوم بايدن بخفض أعداد قوات بلاده، لكن مثل هذا الإجراء لن يغيّر المعادلات على الأرض، ولن يغيّر كثيراً من قواعد اللعبة المَرْعية في الساحة السورية.