مضامين كتب الجغرافيا: بين الاعتراف ومناهضة التطبيع
} ليلى شمس الدين*
يواجه الناس أثناء تنقلاتهم بيئات وشعوباً متعدّدة متقاربة حيناً ومتنوّعة ومختلفة أحياناً، وأمام هذه الاختلافات تطرح أسئلة تطال اختلاف الأشخاص واختلاف الأماكن. ترتكز الإجابة على هذه الأسئلة كما غيرها، على بناء مخازن المعرفة حول هذه الأماكن الجديدة وربما الغريبة، على حد قول الفيلسوف اليوناني والمسافر العالمي هيرودوت منذ القرن الخامس قبل الميلاد، لتُسمّى هذه المعرفة لاحقاً بالجغرافيا.
انسحب تطوّر العلوم والمعارف عبر الزمن على الجغرافيا، فغدت واحدة من الموضوعات الهامة التي تُدرس لفهم العلوم المكانية للأرض، وخصوصاً في ما يتعلق بمكوّنات الجوانب المادية والبشرية. من هنا اكتسبت الجغرافيا أهميتها، وبرأيي هنا تكمن أيضاً خطورتها.
أكاد أجزم أنّ منسوب الخطر يرتفع، عندما نغوص في كيفية مقاربة مادة الجغرافيا وتقديم معطياتها ومضامينها للتلامذة خلال سنواتهم الدراسية. وهنا يستحضرني سؤال: ماذا يدرس التلامذة في مادّة الجغرافيا في المدارس اللبنانية على سبيل المثال.
في معرض الإجابة على هذا السؤال، تواجهنا مسارات متعدّدة تستوجب منّا العمل على سبر أغوارها والخوض في غمارها. كثيرة هي التفرّعات التي تجتمع لتجيب على هذه الأسئلة، ولكن سأحاول وإن بإيجاز التطرّق إلى بعضها ممّا أعتبره مفصلياً ومحورياً في هذا الإطار.
لو نظرنا إلى الخرائط التي تتضمّنها بعض كتب الجغرافيا في لبنان بخصوص الحدود مع فلسطين المحتلّة تحديداً، لوجدنا أنّ بعضها يضع اسم فلسطين المحتلة على الحدود الجنوبية اللبنانية بشكل واضح، فيما وضعت كتباً أخرى نماذج مغايرةـ إذ عملت على حذف اسم فلسطين المحتلة بشكل كامل من موقعها على الحدود الجنوبية اللبنانية دون أن تخط شيئاً. والأكثر استهجاناً وجود كتب تحتوي على ذكر لكلمة «إسرائيل» على الحدود الجنوبية اللبنانية، ناهيك عن قواميس يعتمد عليها التلامذة، تتضمّن علم «إسرائيل» ضمن صفحاتها، وتباع بشكل عادي ضمن مكتبات على الأراضي اللبنانية.
في سياق متصل، تتوزّع كتب الجغرافيا في المدارس اللبنانية ضمن ثلاثة اتجاهات:
أ ـ اتجاه يطال الكتب اللبنانية التي يُشرف عليها المركز التربوي للبحوث والإنماء، وجميعها تضع إشارات واضحة تبيّن إلزامية الموافقة على مضامينها من قِبل المركز، ويُفترض أنّها تخضع للمراسيم التطبيقية المطابقة للأنظمة والقوانين المتعلّقة بمضامين المناهج، وبالتالي يتعرّض للملاحقة القانونية كلّ عدم الالتزام بهذه القوانين.
ب ـ اتجاه يتناول بعض مناهج الكتب الفرنسية لمادة الجغرافيا في المدارس المتواجدة على الأراضي اللبنانية. في هذا السياق، أودّ الإشارة إلى أنّ دخول الكتب والمطبوعات الأجنبية إلى لبنان يخضع لرقابة الأمن العام اللبناني لتحديد ما هو مسموح وما هو ممنوع من الدخول إلى لبنان بموجب القوانين المرعية الإجراء، وبالتالي ليس هناك من علاقة بين المركز التربوي للبحوث والإنماء وبين الكتب المدرسية الأجنبية، ومنها كتب الجغرافيا على سبيل الحصر، موضوعنا هنا.
الجدير بالذكر أنّه وإضافة إلى الـمدارس الست الملحقة بالسفارة الفرنسيّة في لبنان، هناك خمسون مدرسة يخضع تلامذتها للامتحانات الفرنسية الرسمية وتعلّم المنهجين اللبناني والفرنسي وتضم نحو 60 ألف طالب. ويُشير موقع السفارة الفرنسية في لبنان بحسب إحصاءات 2018 إلى وجود 43 مؤسّسة تعليمية خاصّة متوأمة مع وزارة التربية الفرنسيّة، ويُقدّم عبرها المئات من التلامذة اللبنانييّن امتحانات البكالوريا الفرنسيّة المعادَلة من وزارة التربية والتعليم العالي في لبنان.
سأتوقّف عند بعض مضامين كتب الجغرافيا ضمن هذا المنهج وأقول بأنّ الأمثلة المعطاة عن «إسرائيل كثيرة»، ليس أوّلها إغفال قضية احتلالها لأجزاء من الأراضي اللبنانية، أو حتى قضايا الألغام والقنابل العنقودية والفوسفورية التي خلّفتها في حروبها واعتداءاتها على لبنان، فيما استعيض عن ذلك وغيره بذكر النزاع على المياه مع لبنان.
في إطار متّصل تقدّم «إسرائيل» في هذه الكتب على أنّها «دولة» ذات قوّة عسكرية، إضافة إلى كونها دولة نامية تابعة للاتحاد الأوروبي، وسط دول متعدّدة ــــــ جميعها عربية طبعاً ـــــــ في طور النمو.
اللافت أيضاً في جميع هذه الكتب، وجود خريطة في نهاية كلّ كتاب تحتوي ضمن البلاد الموجودة على خريطة فلسطين المحتلة تحت عنوان «إسرائيل»، دون أيّ ذكر لغزّة على سبيل المثال، أو للضفّة الغربية، أو سواها من الإشارات التي لا وجود لفلسطين ضمن خريطة العالم.
أودّ الإشارة أيضاً، إلى أنّ الكتب الفرنسية تجمع مادتي التاريخ والجغرافيا ضمن كتاب واحد، وبرأيي هناك ترابط قوي لجمعهما معاً، بحيث تستند دروس التاريخ على خرائط، وتستند دروس الجغرافيا على معطيات تاريخية، وبالتالي تترسّخ في ذهن التلميذ المعلومات المُراد إيصالها من خلال المضامين المنتقاة.
ج ـ اتجاه ثالث يتناول خلفيات الأساتذة الموكل إليهم تعليم هذه المادة، وهو واقع يضعنا أمام ضرورة الغوص في قراءة مستفيضة حول محور العملية التعلّمية التي تستبطن الخلفية السياسية، والتربوية، والثقافية، والتعليمية والاجتماعية للمعلّم. وفي هذا السياق نجد أنّ كُثُر هم الأساتذة الذين لا يتطرّقون لإبراز عمل المقاومة في مناهضة العدو، إذ لا يوجد عدو واحد بنظر الأساتذة والمعلّمين، ولا مفاهيم ثقافية أو وطنية واحدة. فالبعض يتحدّث عن الحدود الشرقية والشمالية للبنان أي عن سورية كأنّه يتحدث عن «إسرائيل» إذا لم نجد فعلاً أكثر من هذا البعد. وللتذكير فإنّ إيصال الأهداف الوجدانية للمتعلّمين يرتبط بنسبة كبيرة بمعلّم المادّة، ومن هذه الأهداف هناك الانتماء الوطني، والمنطلقات الوطنية على سبيل المثال.
واقع ينسحب أيضاً على أساتذة مادة الجغرافيا الذين يقومون بتدريس المنهج اللبناني في المدارس الحكومية كما الخاصّة والخاصّة المجانية، واقع تتحكّم في منهجية عرضه استنسابية معلّم المادّة.
سأكتفي ببعض هذه الأمثلة التي أوردتها هنا، من صلب قراءة معمّقة لمضامين مادة الجغرافيا في المدارس على الأراضي اللبنانية لأقول: الجغرافيا كنظام تتيح لنا فهم الأرض التي نعيش فيها من المنظور المكاني، كما تقدّم إطاراً منهجياً للتحقيق في أسئلة حول العالم الذي يحيط بنا، من خلال توفير فهم لديناميات الثقافات في المجتمعات كما الاقتصادات السائدة، ناهيك عن تلك الخاصّة بالمناظر الطبيعية والمادية العمليات البيئية من جهة أخرى.
من هذا المنطلق يدلّل عدم إيلاء القضية الفلسطينية والعلاقة الجغرافية بين لبنان وفلسطين الأهمية المتتالية في الشكل والمضمون، وهو ما ينعكس حكماً على كيفية مقاربة هذه القضية الأساسية والمحورية في الصراع اللبناني والعربي ــــــــ «الإسرائيلي»، وما نجم وينجم عنها من تبعات.
أمام هذا الواقع، أخلص إلى طرح سؤال محوري، «بين الاعتراف بوجود «إسرائيل» وبين إغفال مناهضة التطبيع، كما إغفال وجود مسار مقاوم حقّق انتصارات في دحر هذا العدو، أي جيل ننشئ في لبنان، في ظلّ منظومة تعليم فضفاضة واستنسابية وغير محدّدة للقيم الوطنية والقومية العربية على السواء؟
*أستاذة السوسيو انثروبولوجيا في الجامعة اللبنانية