منال ديب… حنينٌ وكلمات وحياة
رنا محمد صادق
…»فلسطينيةَ العينين والوشمِ
فلسطينية الاسم
فلسطينية الأحلام والهمِّ
فلسطينية المنديل والقدمَين والجسمِ
فلسطينية الكلمات والصمتِ
فلسطينية الصوتِ
فلسطينية الميلاد والموتِ
حملتُك في دفاتريَ القديمةِ
نار أشعاري
حملتُك زادَ أسفاري
وباسمك، صحتُ في الوديانْ :
خيولُ الروم!… أعرفها
وإن يتبدَّل الميدان !
من “عاشق من فلسطين” لمحمود درويش أختصر التعريف بالتشكيلية العالمية الفلسطينية الأصل منال ديب. وأوجّه البوصلة نحو البداية، بداية الإنسانية والعدالة ومسمّى الوجود، بداية كلّ زمان ومكان، بداية الأرحام، بداية الذكرى… فلسطين.
الحديث في التشكيل يطيل ويطيل، وفي استطراد الحضور نموذجاً في المعنى والتأصيل في الهوية والانتماء، ما دام الكلام في عزوها مجيد، فهي التي لا تنفصل في التكامل ولا يمكن التجزئة فيها أو التقاسم. هي فلسطين دمع العين ومرقدها، تتلذذ بالحديث عنها، وما أجمل الحديث عنها إن كان المتحدّث أنثى تجسّد في الفنّ والتشكيل المدرسة الفلسطينية المتشعبّة من التضحية والمقاومة ونسيم الحنين.
منال ديب، تشكيلية عالمية، درست التشكيل، وعلم النفس، محبة للشعر، والرسم الرقمي (DIGITAL)، تغوص في مدامك التعبير عن الألم، الثورة والمقاومة، فالرسم عندها بعدٌ والألوان وسيلة والحروف العربية معنى، والتشكيل حياة، في الفنّ.
في التقنية، مدرك الأمور عند كلّ فنان يبدأ من تحديد اللون، الزمان والمكان، فمنهم من يسبح في ذكريات راسخة، ومنهم من يترك للريشة الكلمة، ومنهم من يصوّر رسالته المثلى على أنها حقيقة، أما بالنسبة لديب فهي جمعٌ من كلّ، اللون والإمكانية في العبور من جسد اليوم إلى روح الأمس، وبالعكس… ما يعطيها ميزة في روحانية حضور لوحاتها على أسسٍ أشدّ عمقاً من ذلك التقديم التلقائي الذي لا يسعى سوى للظهور، لا التميّز والمفارقة.
سرّ منال ديب، هو مزيجٌ من كل، الريشة والألوان التي تشكّلها بمضامين ومعانٍ متعدّدة وتتنقل بها من الواقع السلبيّ الذي تعيشه في الغربة وبين ما يحدث في بلادها من ظلم وهوان، بحسب ما تقول لـ”البناء”.
وتتابع: الرسم هو الفعل الإيجابي بإبقاء الوطن حياً، حاضراً في أعمالي. كما أن ذكريات الطفولة التي تراودني مرة تلو أخرى تتكوّن في داخلي في شكل ومضات لتخرج إلى النور باللون والصور التذكارية رغم ما فيها من مسحة حزن وقلق بسياقات مختلفة.
إن أرادت ديب إطلاق العنان لريشتها في لحظة ما، فإن اللاوعي والقدرة على الرسم والتحكّم معاً يجعلان الرسمة ترسم نفسها، فهي لا تؤمن بالتخطيط المسبق لأي عمل أقوم به. وتقول: أتخيّله أولاً فإذا اعجبني في الخيال فهو لا بد رائع في الحقيقة. والتجربة أعطتني الثقة بالحدس وهو أقوى حضور عند المباشرة بأي عمل فنّي.
عبثيّة التجسيد
لا تطمح ديب من خلال لوحاتها تجسيد الحقيقة الخارجية كما هي، لكنها تودّ إضفاء الضوء على العوالم الداخلية سواء لنفسيتها الفلسطينية بذاتها أم لنفسية المتلقي أينما كان حين مشاهدته لهذه الأعمال. العشوائيّة عند رسم اللوحة لا تُخطّط مبدئياً للعمل، بحسب ديب، لكنها من خلال قراءاتها للشعر العربي والفلسفة وعلم النفس يضعها ذلك في حالة روحانية معينة. هكذا تصل إلى اللاوعي عند شروعها بالعمل مع الفرشاة والألوان .
في لوحاتها هدوء في التنفيذ وتقنية، وضجيج في الألوان، ما يكمن في الأداء لوصفه عملية متكاملة لتحقيق مرادها من الرسالة، حيث تقول في هذا الصدد: حين أباشر عملية الرسم تخرج الأفكار من أكثر الأعماق سرية، لا أكون على دراية بها مسبقاً ولكني على يقين من السحر الذي تحمله، وأسميه اللاوعي، كل عمل فني أقوم به هو ثمرة اشتباك بين عالمين في مخيلتي، اشتباك قد يبادر به الوعي مبدئياً مثل إيماني بهويتي الفلسطينية برغم الاغتراب عن وطني، ثم يمضي ليتغذّى على العوامل الدفينة في اللاوعي من ذكريات الطفولة في وطني وحبي لفلسطين، أن أقرأ الشعر لدرويش أو أي موضوع في العشق والتصوّف تجعل الأفكار عند الرسم تثبت في رأسي إلى السطح من العوالم الخفية فيعمل عقلي فيه بالتأمل والصياغة، خلال ذلك تبقى روحي وكأنها في ساحة معركة مشتعلة بأنوار الانفعالات والتوتر ومن ثم تحيلها إلى لوحة فنيّة مدهشة.
علم النفس، منفسها الآخر الذي سعت من خلاله إلى التوظيف مدركاتها في السعي والمشاركة، وتقول حول ذلك: دراستي لعلم النفس وامتهاني الفنّ لسنوات عديدة وسّعا أفق مدركاتي الحياتيّة بحيث أكسبني ذلك الثقة بالحدس ووثّق الشعور لدي لحبّ المعرفة والاكتشاف في شتى مواضيع الحياة. فلا يمكننا الفصل بين روح الإنسان كفنان وروحه في شتى الأمور الحياتية الأخرى، الفنان عادة لا يستطيع أن يخطّط عمله بالكامل منذ البداية بل يجب عليه أن يتركه ينمو، قد تبدو النتيجة بالغة السخافة واللا منطقية للبعض ولكن إذا تخلينا عن تحيّزنا، وتركنا خيالنا طليقاً، فإنه ربما يكون هذا الإبداع نتيجة حلم غريب، حيث المشاعر مختلطة حيال اندماج الناس والأشياء وتبديل أماكنهم وماهيتهم.
هالة الأنثى
وعن سؤالها عن وجود «الأنثى» بشكلً لافت في لوحاتها، تقول: تظهر الأنثى في معظم أعمالي كما أتخيّلها تختار ألوانها بنفسها. احتجاج صامت وشريط من حروف اللغة العربية ملفوفة حول رأسها كالشال، كل طبقة لونيّة أختارها كأنها هالة من طيّات حياتها، إن كانت تعاني من الغربة أم حين تدافع عن وطنها. فالأنثى في لوحاتي لا تعرف المستحيل، والرأس يتكرّر موطن الأفكار القيّمة. المرأة هي التي تحتجّ ضدّ الظلم وترفض العبودية والامتلاك وتسعى لمجتمع عادلٍ، رغم أن هذا الاحتجاج من الممكن أن يكون احتجاجاً صامتاً، فهي تدرك أن عزيمتها أقوى من كل الظروف.
في الإنتاج والوطن
الإنتاجات الفنية الرقمية تأخذ حيزاً واسعاً من اهتمام ديب، بحيث مزجت الألوان التي تعكس الماضي بطريقة عصرية في قالب منفتح على المعالم والخيال، وبالتالي يتحقق بذلك مراد ديب في التواصل مع كافة شرائح المجتمع أينما حلّوا في الأرض، لكون الفنّ لغة، سهلة التواصل والاتصال.
وتقول ديب: في بداية دراستي في الفنّ كان لديّ ولع بالتصوير الفوتوغرافي وخصوصاً الأبيض والأسود. أحببت أن أدمج بين الصور والألوان عن طريق الديجيتال من خلال برامج الحاسوب، طريقة حديثة تجعلني أرى ما في اللاوعي لديّ. ومع الوقت، باتت الأعمال التي أنجزها على الحاسوب بمثابة تمارين وحافز لإنجاز أعمال حقيقية بألوان الأكريليك على القماش. كل طريقة لديّ لها متعة خاصة تغذي الذائقة الفنية لدي. تمامًا كما القراءة في كتب الفلسفة والتصوّف يحفزان ذاكرتي لتعطيني خيالاً غنيًا بالصور وهكذا…
لنهوض الوطن ترسم، ولإيصال رسالة إنسانية عن قضية فلسطين تسعى فهي التي عاشت الغربة إلى أبعد ما يكون لم تنفصل يوماً عن ذاكرة مدينتها رام الله، لا بل تعايشت في لوحاتها إلى أن تحوّلت إلى مغزى الرسالة، إلى أن وصلت ديب إلى العالمية رافعةً شعار الوطن قضيةً إنسانية محقّة، وفي الحقّ الجمال، والجمال حضور في فنّ عصريّ متكامل تعتبره ديب أنه يربّي الحواس من خلال الواقع محوّلاً المجهول إلى معلوم، ويزيد الوعي. الفنّ هو شكل متخصص من العمل الإبداعي به يكتشف الناس العالم ويكتشفون صفاتهم وقدراتهم كبشر. الفنّ هو إدراك الجمال والوعي للفرح والقفزة الشديدة للقوة الإنسانية بالنسبة إليها.
وديب تعتبر الفنان عادة لا يستطيع أن يخطط عمله بالكامل منذ البداية، بل يجب عليه أن يتركه ينمو، وقد تبدو النتيجة بالغة السخافة واللامنطقيّة للبعض، ولكن إذا تخلينا عن تحيّزنا، وتركنا خيالنا طليقاً، فإنه ربما يكون هذا الإبداع نتيجة حلم غريب، حيث المشاعر مختلطة حيال اندماج الناس والأشياء وتبديل أماكنهم وماهيتهم.