نحتاج إلى رجال إنقاذ كـ حسان دياب لا إلى عودة مَن كانوا سبب التفليسة
} أحمد بهجة*
قد يلوم البعض رئيس الحكومة الدكتور حسان دياب لابتعاده عن الإعلام بمعناه المباشر، أيّ عدم إجراء مقابلات تلفزيونية أو إذاعية أو صحافية، واكتفائه بما تنقله وسائل الإعلام عن نشاطه اليومي المكثف واجتماعاته الكثيرة والمطوّلة على امتداد ساعات النهار وحتى ساعات متأخرة من الليل.
للرجل أسلوبه وطريقته، هو يفضل العمل بصمت على «كثرة الحكي». لا يتعاطى العمل السياسي بمفهومه الضيّق لكي يسعى كما يفعل السياسيون التقليديون إلى الترويج لنفسه وتلميع صورته أمام الرأي العام ومحاولة إقناع الناس بأنه يعمل لمصلحتهم، بينما الحقيقة تكون بأنّ هذا السياسي أو ذاك إنما يعمل لمصالحه الشخصية والخاصة، بدليل ما يعيشه اللبنانيون اليوم من أزمات كارثية على كلّ المستويات الاقتصادية والمالية والاجتماعية والصحية والتربوية… بينما السياسيون إياهم ومعهم بعض كبار الموظفين وأصحاب الأموال «ولا على بالهم» لأنّ ثرواتهم مكدّسة في الخارج وهي في الحفظ والصون في المصارف الأجنبية فيما المصارف المحلية تحتجز أموال المودعين الذين باتوا يتسوّلون ودائعهم وبالكاد يحصلون على الجزء القليل منها.
الأكيد أنّ الرئيس دياب وحكومته غير مسؤولين في الأساس عن الأزمة الاقتصادية والمالية، بل انّ هذه الأزمة بدأت فعلياً منذ سنوات طويلة، وتحديداً بعد خروج لبنان من الحرب الأهلية ودخوله مرحلة السلم الأهلي حيث كانت الحاجة ماسّة لإعادة إعمار ما تهدّم خلال الحرب والنهوض بالاقتصاد الوطني.
قدّر الخبراء آنذاك، ومنهم الوزير السابق الدكتور جورج قرم، أنّ كلفة إعادة الإعمار تتراوح بين مليارين وثلاثة مليارات دولار أميركي، لكن مَن تولّوا المسؤولية يومها كان لهم رأي مغاير وقرّروا أنّ الكلفة ستصل إلى نحو 18 مليار دولار، وبالتالي أطلقوا عجلة الاستدانة التي استمرّت في الدوران حتى تولّى الرئيس دياب المسؤولية، علماً أنّ الدين العام لم يكن يتجاوز الملياري دولار بعد انتهاء الحرب الأهلية.
لم يطُل الأمر كثيراً حتى بدأت تظهر مساوئ خيار الاستدانة، ومن أجل إخفاء ذلك تمّ اللجوء إلى المجلس النيابي لاستصدار قوانين تسمح للحكومة بإصدار سندات خزينة بالعملات الأجنبية، بحجة إعادة هيكلة الدين العام بينما الحقيقة هي أنّ هذه السندات بالعملات الأجنبية كانت ديْناً جديداً أضيفَ إلى ما سبقه، وهذا ما حذر منه بالصوت والصورة عدد من نواب المعارضة وأكدوا أنّ هذا المسار سيوصل البلد إلى الكارثة، لكنهم كانوا أقلية ولم يؤخذ بتحذيراتهم التي تبيّن مع الوقت أنها كانت في محلها، وها نحن الآن في وسط الكارثة التي حذروا منها.
وبينما كانت الأزمة تكبر وتزداد صعوبة، استمرّت محاولات إخفاء الحقائق وشراء الوقت بكلفة باهظة جداً، فكانت مؤتمرات باريس 1 و 2 و 3، وكلها كان ينتج عنها ديون جديدة بمليارات الدولارات، وصولاً إلى مؤتمر «سيدر واحد» الذي وُضعت له شروط وقيود منعت المسؤولين الذين سعوا إليه من الاستفادة منه مالياً، لكنهم استفادوا منه سياسياً لأنّ المؤتمر عُقد في نيسان 2018، أيّ قبل شهر واحد فقط من الانتخابات النيابية حيث جرى استغلال نتائج المؤتمر في سياق الدعاية الانتخابية للفريق الذي كان يقف خلف انعقاده.
وبالتوازي مع مسار الاستدانة الذي وصلت أرقامه إلى الفلك، كان هناك مسار آخر أشدّ خطورة وهو مسار الهدر والنهب والصفقات، حيث لا موازنات مصادق عليها من ديوان المحاسبة بين العامين 1992 و 2005، ولا موازنات إطلاقاً بين العامين 2006 و 2016، ثم أقرّت موازنات السنوات الأربع الماضية من دون قطع حساب نهائي حتى الآن.
ولا شكّ في أنّ تغييب الموازنات لم يكن صدفة بل كان أمراً مقصوداً من أجل تمييع الحقائق والتغطية على ما حصل من موبقات في المالية العامة، كان آخرها صفقة الهندسات المالية في العام 2016 وملحقاتها في الأعوام 2017 و 2018 و 2019، إلى أن وقعت الواقعة في أيلول 2019 حيث بدأت المصارف تضيّق على زبائنها الذين يطلبون سحب مبالغ من ودائعهم بالدولار، وصولاً إلى الانفجار الشعبي الكبير في 17 تشرين الأول 2019.
كلّ هذا حصل قبل وصول الرئيس حسان دياب وحكومته التي تمّ تشكيلها في 1 كانون الثاني 2020 ونالت ثقة مجلس النواب في 11 شباط 2020، فأين إذن مسؤولية الرئيس دياب يا أيها الذي تحاولون تغطية عيوبكم وسقطاتكم وخيبات الأمل التي تسبّبتم بها لمن أعطوكم ثقتهم ووضعوا جنى أعمارهم بتصرفكم؟
الرئيس دياب تجلّى بالأمس في مقابلته التلفزيونية الأولى، تحدّث بصدقه وشفافيته ووضوحه وبعده عن أيّ مصالح ذاتية وخاصة، وها انّ غالبية الناس تقول ذلك اليوم، منهم مَن رأى الأمر واضحاً منذ اليوم الأول، على طريقة «سيماؤهم في وجوههم»، ومنهم مَن يعبّر هذه الأيام عن الندم والأسف لأنهم لم يدعموا هذا الآدمي وحكومته وتركوه مع قلة قليلة في مواجهة «عتاعيت» السياسة والمال الذين لا يزالون مع الأسف الشديد يستقطبون نسبة مُعتبرة من الرأي العام، تارة باستخدام العصبيات الطائفية والمذهبية، وتارة أخرى باستغلال حاجات الناس الكثيرة إلى خدمة من هنا أو مساعدة من هناك، علماً أنّ هؤلاء أنفسهم هم مَن أوصل الناس إلى هذا الدرك من الحاجة والعوَز.
أما إذا أردنا الحديث عن إنجازات حكومة الرئيس دياب، فيكفي القول إنّ الإنجازات كبيرة جداً قياساً إلى أنها لم تعش أكثر من ستة أشهر، فواجهت ما ورثته من أزمات اقتصادية واجتماعية ومالية بالعمل الدؤوب لإعداد الخطط العملية الكفيلة إذا تمّ تطبيقها بوضع لبنان على سكة الحلول الكبرى على أكثر من صعيد. علماً أنّ الحكومة كانت في مواجهة مستمرة مع طبقة سياسية بأمّها وأبيها مع الأبناء والأحفاد أيضاً، ولم يدعمها فعلياً إلا رئيس الجمهورية والمقاومة وبعض حلفائها… ثمّ واجهت جائحة كورونا التي تقف كبريات دول العالم عاجزة أمامها، بينما تمكّن لبنان من مواجهتها حتى الآن وباللحم الحيّ كما يُقال… ثمّ أتت كارثة انفجار المرفأ وما خلفته من ضحايا ودمار وخراب، وما أدّت إليه من تزايد الأعباء والأحمال التي أصبحت ثقيلة جداً على كاهل اللبنانيين والحكومة التي كان عليها الاستقالة كما قال رئيسها وكما فعل.
في الخلاصة لبنان يحتاج إلى رجال إنقاذ من أمثال الرئيس حسان دياب، ولا يحتاج أبداً إلى عودة مَن كانوا سبب التفليسة.
*خبير مالي واقتصادي