وداعٌ وعرفان
زياد كاج
أكاد أتحدّث مع الراحلين من جدود الضيعة وفلاحيها الراحلين – الحاضرين وأنا أتأمل الجلول (جمع جّل) الصخرية التي رتبتها أيديهم الصلبة والخشنة بعد تكسيرها وترويضها بمعاول تقدح ناراً تحت الشمس. أرى وجوههم السمراء وتجاعيدها، وشيب رؤوسهم من الأيام والتجارب المنحوتة والمصوّرة عن غير قصد. بصمات الأيدي العتيقة والخيّرة لا تزال معلقة على صخور جلول الضيعة أحزمة أمان كي لا تزحل التربة من زخات المطر وذوبان الثلوج فتأخذ معها جنى العمر وجنّته.. وفلذات القلوب.
جلال الضيعة صمام أمانه؛ بركة أجيال حلّت ورحلت وقلبها على مَن سيحمل الدهر من أحمال ثقيلة، من تقلبات وويلات. فعندنا فقط يرحل البشر وعيونهم شاخصة على مَن بقَوا في الخلف.
ضيعة أمي، «منصورية بحمدون»، تشبه كل ضيع وقرى جبالنا. ناسها ناسهم، رزقها رزقهم، مياهها مياههم، قلوبهم بيضاء ككل القلوب – كأول ثلجة على تراب فيه شوق وعطش للأبيض المنعش بعد صيف حار. الجلال في ضيعة أمي لها حضور خاص. كلما قصدتها ومشيت في طرقاتها، أحبّ أن أقترب منها؛ ألمسها – ولولا الخجل لتحدّثت معها. تبدو الصخور المتراصة والمختلفة الأحجام كأنها وجوه تبتسم من ماضٍ كان كله خير. اشتغلت عليها الأمطار والثلوج وترسبات الرمال ورزنامة الزمن فصارت أكثر التصاقاً – تشبه مجموعة فتية تجمعت أمام مصور أرمنيّ قصد الضيعة للمرة الأولى.
لي صداقة وحب قديمان مع ناسها وبيوتها وخضارها. ففي بيت جدي التراثي تذوّقت التوت والتين والخوخ والعنب والعناب من أغصان وليس من دكان. لفتتني ورقة عرايش العنب المتواضعة التي زيّنت الضيعة كفستان عروس خاطته الطبيعة. ورقة العريش تفهم الفصول، تحترمها، تزيّن العنقود – الثريا صيفاً، وفي الخريف، ترتمي أرضاً بتواضع كفراش وثير يمنح التراب ألواناً مختلفة.
بين «المنصورية» و»الجارة بتاتر» حرف «قاف» ثقيل ومعتق على الأصول. كان يتقنه زوج خالتي، أبو الياس، الذي كان يضمن كروم العنب ويراهن على الفصول مع جيرانه في «بتاتر». وإذا أدركه خبر وفاة «تحت»، كان يحاول بكل ما يمتلك من جرأة وقوة ومونة العمر أن يحول دون إقامة عرس في «المنصورية». تطلع «القاف» من فمه كأنها «بتاترية»؛ يزيد عليها من عنده بعض من حنية هواء «المنصورية». تحسبه في موال عتابا حزين رقيق. لم يخلع يوماً أبو الياس ثياب الفلاحين ولا تخانق أو حرد ولو لمرة مع عرايش العنب.
من ذكريات أمي الشحيحة أن المنصورية وأهلها كانوا يسكنون «عين حلزون.. تحت». وكلمة «تحت» تعني الأرزاق والأيام الملاح ونهر كرار وخير كثير. لكن الأرض زحلت وحصل زلزال. نزح من بقي وعاش الى «فوق» حيث الضيعة اليوم. قلوب كثيرة بقيت تحت بقيت تحت. وتخبر أمي أنها أضاعت مرّة رسن البقرة فأكلت علقة وكادت أن تضيع البقرة. وتضيف أن جدتي مريم كان فائقة الجمال: شكلاً وخلقاً. وأن الناس تجمّعت حول أول سيارة بأربعة دواليب دخلت الى «المنصورية» وأنّهم صغاراً كانوا يغنون «لفرنسا» كي تنتصر في الحرب العالمية. وحسبي أن أهل «بتاتر» غنوا نفس النشيد على طريقتهم. ولا تنسى يوم طردها «الخوري – المعلم» لأن جدي لم يمتلك المال الكافي لشراء الكتب.
« للجبل عندنا خمسة فصول» كتبت ماري القصيفي. وأنا كتبت «ليالي دير القمر» بعد «حفلة زجل حامية جداً» استخدم فيها البارود بدل العتابا وكاسات العرق. في ليلة ظلماء أصبح أهل المنصورية وغيرهم في وادي «دير القمر». جميل الصدفة أن الروايتان صدرتا في السنة نفسه. تبادلنا الهدايا مع تواقيع. القصيفي كتبت الحرب بصوت ممرضة أجنبية عملت في مستشفى البلدة المحاصرة. وأنا بدوري كتبت بصوت خيالي وبأصوات أناس من عائلتي. اخترت قصة وفاء وحب بين شابين من المنصورية وبتاتر.. تبين لاحقاً أنها حصلت فعلاً في قرى وأمكنة عدة. مهما حصل، يبقى الزمن مرهم النسيان والتسامح. والأهم أن تربة المنطقة تثمر عرايش العنب وليس أشجار البرتقال.
«هذه الحرب يلي بيخسرها بيخسرها ويلي بيربحها بيخسرها»، قال شيخ موحّد جليل وحكيم.
طبيعة المنصوريّة تشبه ناسها. أناس طيّبون، أوفياء، مؤمنون، محبون للخير والبلد ومعتادون على العيش المشترك مع الجيران. منذ نعومة أظافري اُطرب لصوت جرس كنيسة الضيعة ولصوت جوقة التراتيل وأسكر لرائحة البخور وأستطيب خبز القربان الذي نشتريه من دكاكين بحمدون الضيعة في طريق عودتنا الى بيروت. صوت الجرس جميل كأنه مخدّر قبل عملية جراحيّة. أحب صداه كما أحبّ آذان الجوامع في بيروت. نشأت على موسيقى آذان جامع قريطم وسيمفونية جرس كنيسة الضيعة. الله لا يفرّق حين ينادي البشر ويعزفون لحن الإيمان والشكر والعرفان. فطرق الله متعددة.. يبقى أن الجوهر والنتيجة واحدة. فهو المؤلف الأعظم لسيفونية الوجود؛ كل الوجود.
فوق، تآلفت مع خالتي روزيت التي كانت روحها تشبه الزيت الصافي الطاهر، وخالي يوسف الذي كسرته الأقدار والحرب، وخالي ميخايل (غارو) إبن المنصورية الأصيل وصاحب الهمة القوية والصبر وغدرات الزمان. يعود كل أسبوع الى الضيعة ليرتوي من أوكسيجين لا يجد له مثيلاً في مكان آخر. وخالتي المرحومة ناديا، وخالتي البعيدة – القريبة مادلين المستقرة في تنورين. أبناء خالتي روزيت وبعض الأقارب هم مثل عناقيد عنب العرايش: أصالة وطيبة وبساطة.
حين شاهدت فيلم «سمعان بالضيعة» في الأشرفية بكيت. تأثرت لحياة رجل يعيش وحيداً «تحت» مع بقراته ودجاجاته وحصانه ويرفض الزواج. يعيش مع ذكرياته في عزلة تشبه تلك الخاصة بشعب التيبت. رأيت وجوهاً كثيرة في الفيلم وظهرت خالتي روزيت في مشهد. سمعان يبيع الحليب للجميع: لأهل بتاتر وللمنصورية. لا يفرق. يدخن ويشرب القهوة ويفضل الابتعاد عن جنس البشر.
لطالما تمنيتُ اكتشاف عالم بتاتر وناسها. أصل الى لوحة شهداء الضيعة وأتراجع. زرت الكثير من أماكن ومزارات بعيدة لأهل التوحيد: الست شعوانة، خلوات البياضة، وغيرها. ولي صداقات أعتز بها في شاناي، بيصور، البنيه، وكفرمتى، عين عنوب، صوفر، بعقلين وموحّدي بيروت. جلال بتاتر التي تشبه جلال المنصورية. لا فرق بين ناس المنصورية وناس بتاتر سوى قرع الجرس والراية ذات الألوان الخمسة – الحدود الخمسة.
سقى الله أيام زوج خالتي أبو الياس، صاحب الوجه السموح والابتسامة التي تشبه شروق الشمس في يوم ربيعي «ميّلوا» كان ينادي حين يلمح سيارة عابرة قرب بيته. لا يهمه الركاب ولا من أين أتوا. ذبحني يوم صرخ ألماً وخالتي تخرج من الدار الى الكنيسة «لوين رايحة يا أصيلة؟».
لم يكن يودّع زوجة عاشت معه العمر بل كان يودّع زمناً مختلفاً لن يعود.
*روائيّ من لبنان