الأدب الوجيز.. جدليّة الحجم والكتلة
} د. الحبيب الدايم ربي*
قد توفر الإبدالات الفنية الجديدة، في كثير من الحالات، مخرجاً مشرّفاً لبعض عديمي المواهب، فيحاولون ركوبها، ظناً منهم أنها «سهلٌ سُلّمُها»، وأنها سبيلهم لتغطية عجزهم. والحال أن لا مكان للسهولة في الفن الجدير بفنيته. فالذين تلقفوا قصيدة النثر من منطلق عجزهم عن الاستجابة للمعايير الخليلية، أو الذين احتضنوا القصة القصيرة جداً والومضة وقصيدة الهايكو والنثيرة والتغريدة و… نكاية في قصورهم عن كتابة أجناس أخرى، كل هؤلاء وسواهم لن يفلحوا في مسعاهم أو يأتوا بجديد. وهذا التطاول الذي نلحظه في واقع الممارسة الأدبية له ما يضاهيه في مجالات أخرى كالغناء والتشكيل والمسرح وما إليه.
لذلك فإن الأسئلة العميقة التي يطرحها «الأدب الوجيز» تقتضي وعياً نظرياً وإجرائياً للخوض فيها وتحصينها من الدخلاء ومواكبتها، بل والمساهمة فيها. حتى يتم قطع الطريق على كثير من الباحثين، عن موطئ قدم، ضمن هذا المشروع الجديد.
طوال تاريخ الأدب والنقد لم تفلح التنظيرات في البرهنة على أن «الحجم» محدّد جوهري من محددات الإبداع. كل ما هنالك أن الحجم ظل عنصراً تكميلياً يتم التوسل إليه وبه لإنقاذ التعاريف من تهافتها. وبالتالي ظلّ استحضاره في السياق مجرد نافلة من الممكن الاستغناء عنها دونما تأثير كبير. وفي هذا الصدد لم يوافق إدغار ألان بو على أن يدخل «الطول في ميزان الأثر الأدبي» وذهب إلى أن الاعتقاد في ذلك بمثابة «حكم مشؤوم» وجب التخلص منه. بيد أن «بو» سرعان ما نقض نفسه بنفسه حين ذهب إلى تحديد زمن «الكولومبياد»، «حيث القصيدة لا تتجاوز أبعادها ما يمكن أن يُقرأ في ساعة واحدة»، وحين اعتقد بإمكانية تقليص طول القصة القصيرة إلى ساعتي قراءة جهراً، بل وزعم أن الرواية هي نوع «غير مكتمل» بسبب طولها.
ولئن كان لنا هنا من تعليق سريع فإننا نرى «بو» يتحدث عن «القصة القصيرة»، في زمنه، وليست «القصة»، في مطلق الأحوال. وقد كانتا مختلفتين آنذاك عما هما عليه اليوم. أي أنهما كانتا معاً أكثر طولاً. هذا إذا أدخلنا الطول، من منظوره، في معادلة التجنيس.
صحيح أنه لاعتبارات ديداكتيكية كان يتمّ اللجوء، بين الحين والحين، إلى المعيار الكمي للتمييز بين النصوص والتلفظات، ضمن أنواع، داخل الجنس الأدبي الواحد، كالتفريق بين القصيدة والمقطوعة مثلاً، وهو تفريق غير مُقنِع بما يكفي ما دامت المقطوعة، وكما تستعلن ذاتَها جزءاً من كل، أي أنها جزء مقتطع من قصيدة، يراوح بين البيتين والسبعة أبيات. وما تعدي ذلك، فمن البداهة أنه قصيدة أو مطوّلة. ولو أن هذا الاصطلاح (التمييزي)، في حد ذاته، ليس بداهة. وإنما ظل محل خلاف بين الدارسين والنقاد، لهذا يساورنا الظنّ بأن سؤال «الحجم» في الأدب يلتمس جواباً من خارج الأدب، كما يبتغي سؤال القصة جواباً من خارج القصة. وهو إلى ذلك سؤال برّاني يريد استجداء مقوّم تعريفي للقصة من أشراط لا قصصية، إن جاز التعبير. وإلا فما معنى تغيير التوصيفات الخارجية للقصة (قصة قصيرة، قصة قصيرة جداً، قصة ومضة) إن كان للقصة حيّز ملموس مخصوص!! وهذا الإجراء الالتفافي لا يختلف عما قام به الشكلانيون الروس حين لجأوا إلى تعريف القصة بواسطة الرواية عبر المقايسة بينهما في المشاكلة والاختلاف. وكان من شأن ذلك تعريف «مجهول البيان» بـ «مجهول البيان» وقد عبّر عن هذه الخيبة، حين قال فيكتور شلوفسكي: «يجب أن أعترف (…) أنني لم أعثر بعد على تعريف للقصة القصيرة».
نحن نعلم أن هناك قواسم مشتركة بين القصة والرواية، فالقصة ربيبة الرواية، لكن القصة غير الرواية، ولا دخل للحجم في الاختلاف بينهما، كما أن هناك قواسم بين القصة والقصيدة، وبين القصة والقصة القصيرة والقصة القصيرة جداً، لا دخل للحجم فيها أيضاً، لكن ما المقصود بالحجم أصلاً؟ خاصة أن أدوات القياس تختلف من مرحلة إلى أخرى. هل الحجم هو السند (الحامل) الورقي الرقمي أم هو الوعاء الزمني، أم عدد الرموز والكلمات؟ هل هو سمك الكتاب، طولاً وعرضاً وسماكة؟ أهو الجيجا giga والميجا mega ؟ وهل يستقيم هذا القياس في أمر مرتبط بالقصة والخاطرة والومضة؟ لا بأس من أن يقاس زمن المسرحية، كما حدده أرسطو، بدورة شمسية، (من منظور ذلك العصر)، والواقع أنها دورة أرضيّة بالحساب الكوبيرنيكي الحالي. لكن قياس الأثر الأدبي بحجم مفارق قد يدعو إلى التساؤل الحذر.
نحن نعتبر الحكاية خصيصة نوعية للقصة (والرواية) والمسرحية، إلى جانب خاصيات أخرى، أما الحجم فعرضيّ وهلاميّ ومقحم في المايجمع والمايمنع. وإذا كانت الحكاية ثابتاً من ثوابت القصة، وباقي المحكيات والمسرودات المتآخية، فإنها بدورها) أي الحكاية) لا تقاس بالحجم. واكتمالها رهين بتقنيّاتها النوعية لا بما تملأه من فراغ مكاني أو زماني. لذا فليس للطول والقصر علاقة بها إلا من باب التجويز، ما لم نقل الاشتطاط. الحكاية متأبية دوماً، وهي حين تنتهي لا تنتهي لأن حجماً ما يفرض عليها ذلك، وإنما لاعتبارات أخرى ينبغي رصدها. فحكاية (أو حكايات) شهرزاد دامت ألف ليلة وليلة من دون أن يحاصرها سقف الحجم، ومن دون أن تنتهي حتى، وهي حين كانت تتوقف كل ليلة مع بوادر الصباح يكون المعطى السياقي، هو المتحكم في توقفاتها لا المسبق الحجمي.
صحيح أن سؤال الهوية، على أهميته، لن يكون بديلًا عن سؤال الكينونة، فـ «من؟» و «كيف؟» ينطرحان في الآن ذاته على قدم المساواة، من غير تقديم أو تأخير لهذا أو ذاك. والهوية من هذا المنطلق، لا تسبق الكينونة وإنما تحايثها. إنها تشكلٌ ممتد في الزمان والمكان وليس معطى ناجزاً مكتملاً. ولئن كان الشكل، كصوغ وبناء، قيمة لا يمكن تجاوزها في القصة فإن الحجم يظل مجرد تابع لا فرق يقدّمه ولا إضافة يصنعها، إلا القليل جداً. علما بأن هناك اختلافاً بيّناً بين الشكل بما هو تكوين جوانيّ وبين الحجم كوعاء برانيّ. الشكل بنية ونسق تكويني بينما الحجم قالب وعاء. لا نريد، هنا، أن نلغي الحجم من الحساب، لأنه يفرض ذاته زجًّا، فهو ذلك الاعتياد الذي كلما طردناه رجع إلينا خبًّا وركضاً. بيد أننا نفضل فك الارتباط بينه وبين أجناسية الكتابة، بالنظر إليه من زاوية التحولات التي قطعتها الأجناس الأدبية وهي تتشكل عبر تاريخها الممتد. وقد حصل أن تغيرت حجوم أجناس أدبية وفنية، في الطول والقصر، من دون أن يزحزحها هذا التغير عن انتمائها الأجناسي. ولئن كان لنا أن نمثل بالقصة، فسنفترض أن سيرتها ابتدأت مع انتقال الحكاية من العصر الشفوي إلى عصر التدوين، فالقصة بهذا المعنى حكاية مكتوبة وفق طريقة أوصلت شكلها إلى أقصى الممكنات لدى كاتبها، هي إذن سقف الموهبة لا سقف الأدب. فما مدى الحجم، عندما نستحضر مقياس الحجم، الذي انوجدت به القصة في بدايات تشكّلها وما التطورات التي خضع له حجمها، تمدداً أو ضموراً، عبر هذا التاريخ؟ وهل من أسباب كانت تقف وراء تبدل حجوم القصة وباقي الأجناس الأخرى خلال رحلتها؟
قد تفيدنا البيولوجيا في فهم آليات التطور المفترضة التي طرأت على حجوم القصة، بين الطول والقصر، إذ إن نظرية لامارك (1744/ 1829) القائلة بـ» أن جميع الأنواع الحية ـ بما فيها الإنسان ـ قد انحدرت من أنواع أخرى» والتي تعزو «النشوء الارتقائي» إلى العوامل الطبيعية للحياة، وفق مبدأ التكيف. فحجم الأعضاء (وكلمة حجم هنا ملائمة) يتقوى أو يضمر حسب ما تقوم به من حركات وأدوار. فكلما كان اشتغالها (وتشغيلها) قوياً انعكس ذلك على حجمها والعكس بالعكس. فيما نظرية داروين (1809 / 1882) تؤمن بالتنازع بين الكائنات من أجل البقاء، والبقاء يكون للأقوى. لأن «الطبيعة تنتقي فقط ما فيه مصلحة الكائن الذي ترعاه» والقدرة على التكيف. وهذه النظرية وإن بدت ظاهرياً مناقضة لما جاء به لامارك إلا أنها تتكامل معها. والنظريتان معاً قد تصلحان، كل من جهتها، لتفسير ما لحق الأجناس الأدبية من طول ومن قصر. أثناء النشوء والتطور والارتقاء، والتمدد أو التكلس في حجم القصة، مثلا، كان مرده، في الغالب، إلى عوامل لا صلة لها بالأدب إلا من جهته التداولية والسوسيوتاريخية. وهذا معناه أن الحجم كان وما يزال غير محايث للأنا القصصي وإنما هو مفروض بقوة الواقع الحاضن له. فمن المعلوم أن القصة ابتدأت أول ما ابتدأت، في الغرب كما في الشرق لاحقاً، طويلة الحجم لأن مقتضيات العصر في غياب فنون كتابية منافسة كثيرة، وكانت حاجة الناس إليها حيوية بالقدر الذي كانت تحتاج الجرائد إليها، حديثة العهد، لملء بياضاتها والاستجابة لما يبتغيه القراء من تسليات وحكايات أدبية. ولأن الطول في الحكاية، للأسباب التي ذكرنا بعضها، هو المبدأ، فقد جاءت النصوص القصصية الأولى في حجم الرواية أو أقرب، ولهذا السبب عرفت الرواية بالقصة وليس العكس. ونص «الجحش الذهبي» لأبوليوس، مثلاً، هو قصة طويلة، ونحن هنا نستعير الاصطلاح الذي أطلقه محمد حسين هيكل على «الرواية». وتم اعتبار هيمينغواي قصاصاً وليس روائياً. فحيثيات لجنة جائزة نوبل أفادت بأن نص «العجوز والبحر» قصة، لا يعني هذا أن الحدود بين الجنسين دارسة وإنما هي متاحة للخرق في كثير من الأحيان بالرغم من الاختلافات الجوهرية بين هذين الجنسين. الطول كان ضرورة وظل إلى عهد قريب ساري المفعول في الأدب العالمي. ولئن لم يعُد يتسع له صدر الجرائد والمجلات، لـ»وفرة المواد»، فما فتئت الكتب تحتويه، وما قصص ماركيز وبول بولز وبورخيس ويوسف إدريس وغسان كنفاني ومحمد زفزاف إلا تمثيلات غير حصرية، حتى أن بعض الكتب لا تضم سوى قصتين أو ثلاث، مما يؤكد إلى أي مدى هي طويلة. ولعل من يقرأ القصص التي كتبها رواد القصة في العالم العربي سيقف على هذه الحقيقة البسيطة، كما هو الحال عند جبران خليل جبران والمنفلوطي وطه حسين ويوسف السباعي ويوسف إدريس وسميرة بنت الجزيرة العربية وإميل حبيبي وعبد الكريم غلاب ومبارك ربيع وسواهم، مع تفاوتات في الطول لا في القصر.
* عضو هيئة ملتقى الأدب الوجيز