جدليّات الردّ على عمليات الاغتيال
علي أحمد حجازي
تتعدّد أشكال المواجهة بين محور المقاومة والمحور المقابل الذي يتمثل بـ «إسرائيل» وبعض الدول العربية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. هذه المواجهة التي بدأت منذ انتصار الثورة الاسلامية الايرانية بقيادة الإمام الراحل الخميني عام 1979. اتسمت العداوة بمحورين مقابلين يمثلان الخير والشر. وكانت تمرّ فصولها بمعارك عسكرية مباشرة، وحروب ناعمة ثقافية وسياسية استطاع محور المقاومة من خلالها إثبات قدرته على المواجهة وتحقيق الانتصارات، كما وإفشال مخططات العدو الهادفة إلى تفكيك المحور الذي ينظم أموره ويطوّر قدراته يوماً بعد يوم.
تتالت الأزمنة، بوجوهٍ متعددة من الحروب، وكان هدف العدو الأعلى حماية المصلحة الكبرى في المنطقة والمتمثلة بحماية وجود كيان العدو الإسرائيلي وسيطرته على كلّ مقدرات الشرق الأوسط.
تطورت أساليب المواجهة مع تطور الزمان، وكلّ مرحلة كان لها سمة خاصة من فصول الصراع. كما تنامت قدرة محور المقاومة العسكرية، وأُسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد، بدايةً عبر طرد العدو الإسرائيلي من لبنان ثم إلى هزيمته في حرب تموز 2006. بعدها لجأ الأعداء إلى توكيل من ينوب عنهم في ساحات المواجهات، عبر خلق مجموعات متشددة وبالتالي تحويل الصراع الى مذهبي عقائدي كانت الساحة السورية مقراً له. فشل المشروع في سورية أيضاً، وانتصر محور المقاومة (ولو لم يحقق الانتصار النهائي بعد) مجدّداً وخابت ظنون الأعداء.
وفي كلّ الفترات، كان هناك وجه آخر للصراع، التصفيات الأمنية، حيث لجأ العدو في كلّ المراحل إلى عمليات تصفية لقادة في محور المقاومة يشكلون مفاصل في مسارات المواجهة، ظناً منهم أنّ ذلك يشكل تفككاً في تنظيمات المحور وتلاشياً في قدراتهم العسكرية والأمنية وغيرها. لم يفلح هذا الأمر، واكتشف العدو أنّ عمليات الاغتيال تزيد محور المقاومة صلابةً وإرادة على المواجهة والصمود والانتصار.
وقد استطاع الأخير تشكيل قوة مضادة بوجه العدو، فما تغاضى عن أيّ عمل ضدّه، كرّس بذلك «معادلة الردع».
لا شك بأنّ العدو الصهيوني تميّز منذ نشأته بالقدرة الاسخبارية العالية والفعّالة، والتي تُعدّ من أكثر الأجهزة فعاليةً على مستوى العالم، مدعومة بلا حدود من الولايات المتحدة الأميركية وأنظمة استخباراتها الطاغية على المدى، والتي تمتلك كلّ المقدرات التي تحتاجها في هذا المجال، وبالتالي استطاعت تلك الأجهزة تنفيذ عدة عمليات اغتيال لشخصيات في محور المقاومة يشكلون خطراً على مصير «إسرائيل» ومشروعها الخبيث، امتداداً من فلسطين المحتلة إلى لبنان وسورية والعراق، وصولاً الى مرتكز مركز المحور إيران. وكانت العمليتان الأبرز اغتيال القائد الجهادي الكبير الحاج عماد مغنية عام 2008، واغتيال «العصر»، الحاج قاسم سليماني الذي كان يمثل رمزاً مقاوماً أممياً، مطلع العام الحالي.
عقب كلّ عملية اغتيال ظهر قادة المحور أكثر صلابة وعزيمة على الردّ بالطرق والمواقيت المناسبة والتي تحمل طابعاً استراتيجياً يكرّس مسار الردع القائم. كما كان يظهر إصرار جمهور المقاومة على ضرورة أن يكون الردّ قاسياً وحاسماً على العدو، هذا الجمهور المُمتدّ على طول شعاع الدول المقاومة لم يعُد يقبل المساومة على أيّ ضربة توجه نحو أحد رموزه بعدما بات يعتبر نفسه (عن حق) قوياً وقادراً دائماً على تحقيق الانتصارات على العدو، والذي لا يوجد مكاناً للخضوع والهزيمة في قاموسه. وهذا الإصرار بحد ذاته يشكل عنصراً إيجابياً ضاغطاً على قادة مقاومته كي تردّ الصاع صاعين على كل عملية ينفذها الأعداء.
لكن أساليب الردّ تخضع لعوامل المعركة، كما وطبيعة الشخصية المستهدفة. وهنا لا بدّ من المرور على عدة نقاط نناقش فيها حول تلك العوامل:
أولاً: لا شك بأنّ العدو يمتلك ترسانة استخباراتية وأمنية كبيرة، لكن ليس صحيحاً أنّ بإمكانه استهداف أيّ شخصية يرغب بتصفيتها، وإلا لكان قد استهدف كلّ قادة المحور والتخلص منهم لأنهم يشكلون خطراً على كيانه ومشروعه.
ثانياً: قد تكون عملية الاغتيال استدراجاً لمحور المقاومة كي يقوم بالردّ الفوري والقاسي، وبالتالي توريطه في حرب عسكرية شاملة يكون العدو قد حدّد توقيتها، وبالتالي قد أعدّ العدة اللازمة للمواجهة، وهنا المطلوب أن لا يُستدرج لتلك الحرب التي يحددها العدو.
ثالثاً: محور المقاومة بات اليوم يشكل خطراً وجودياً على الكيان الصهيوني، يراكم قواه ويعزز قدراته يوماً بعد يوم بانتظار الساعة الصفر التي تُتيح القضاء على الكيان، وهذه المرحلة تحتاج الى الحكمة والبصيرة بالتزامن مع الصلابة وعدم السكوت على الضيم، كما وعدم الانجرار نحو أيّ عمل يريده العدو يهدف إلى إضعاف قدراتنا وإرجاعنا إلى الوراء، طالما أننا نتقدم إلى الأمام.
رابعاً: هناك قدرة لدى المقاومة بإلحاق الأذى الكبير على الأعداء، لكن من دون تهوّر وحماسة سلبية، بل بالتروّي والتفكير بالخيارات الاستراتيجية التي تخدم الهدف الأكبر المنشود له. وهنا علينا رؤية المشهد «من فوق» وقراءة الأمور من أعلى.
خامساً: مشروع المقاومة هو مشروعٌ كاملٌ متكامل يهدف الأفراد فيه إلى تنشئة الموارد البشرية على القدرات اللازمة وتكملة المسيرة كلّ من موقعه، وعندما يسقط الشهيد يتسلم أمانته ألوف تكمل مسيرته وتعمل ضمن مشروعه.
سادساً: لا أحد يضاهي شهدائنا، ولا شخصية عدوة يمكنها أن توازي «نعل» أحد من قادتنا ومقاومينا.
محور المقاومة قويّ جداً، إذاً لا بُدّ من الحكمة والبصيرة، والإصرار على عدم السماح للعدو بكسر قواعد الإشتباك وموازين الردع السارية، وهذا ما يتطلب تكتيكاً في أسلوب الردّ محتوياً على الرسائل المباشرة والضمنية للعدو لمعرفة حدود تماديه، وبالتالي إفشال مشروع الإغتيال. كلّ هذا متوازياً مع تنمية القدرات والإصرار على تكملة المسيرة والوصول إلى الأهداف. وعدم السماح للعدو أن يهلكنا جراء استهداف مقاومينا.
الردّ آتٍ لا محال… وسيكون مزلزلاً.