سورية تحتفي بعودة طائر الفينيق الموسيقار السوريّ صفوان بهلوان
} وفاء السمان*
برعاية من وزارة الثقافة وحضور الدكتورة لبانة المشوح وزيرة الثقافة، دار الأوبرا في دمشق كانت على الموعد لتستقبل في رحابها وعلى مسرحها الراقي ابن سورية وفنانها الكبير الموسيقار صفوان بهلوان في حفل أسطوري من الزمن الجميل.. من الجدير بالذكر أن بطاقات الحفل نفدت من مراكز البيع منذ الساعات الأولى لإطلاقها، ولولا مراعاة أمر التباعد المكاني لكان الواقفون أكثر من الجالسين كما كان يحصل في حفلاته بدار أوبرا القاهرة، فقد امتلأت الصالة بالحضور وكذلك البلكونات… وللأسف كان هنالك عدد كبير من الجمهور المنتظر عند الباب والذي لم يتمكّن من الدخول..
لم تشهد دار الأوبرا منذ تأسيسها عام 2005 حفلاً بهذه العظمة وهذا الكمال… سجلّ من ذهب يُضاف إلى سِفرها الكبير… هذا ما قاله موسيقيّون كبار أمثال عميد المعهد العالي للموسيقى المايسترو عدنان فتح الذي قاد الفرقة الموسيقيّة.
بدا الموسيقار أنيقاً كعادته، متألقاً شباباً وصحة، وصوته بكامل مساحته الصوتية منذ ثلاثين عاماً وربما أعلى وهذا ما شهدناه في الطبقات العالية التي وصل إليها بمنتهى اليسر والسهولة وخاصة في موال أشكي لمين، وأغنية دوار يا بحر الهوى..
هناك كان الجمهور السوري النخبوي ينتظر بشغف إطلالة ابن أرواد، صخرة أرواد الشامخة، ذلك الفتى العبقري الذي حلم بلقاء موسيقار الأجيال الراحل محمد عبد الوهاب، وكان له ذلك في بيروت… أصغى عبد الوهاب باهتمام لذلك الفنان المجتهد وذُهل بأدائه الساحر لأغنيته «مريت على بيت الحبايب» بحلّتها الجديدة وهو ابن السادسة عشرة من عمره فطلب منه لاحقاً أن يعيد توزيع وتقديم ما يشاء من أغانيه.
هو الموسيقار صفوان الذي تفوّق في إضافاته اللحنيّة على اللحن الأساس فيما كان يغني من ألحان عبد الوهاب خاصة أغنية «كل دا كان ليه» التي حوّلها إلى ملعب موسيقي يستعرض فيها مهاراته وقدراته في التنقل المرتجل بين المقامات الموسيقيّة بصورة مذهلة أذهلت الموسيقيين الذين يعزفون خلفه، فيتوقفون ليتحوّلوا الى مستمعين، كل ذلك كان بحرفية المطرب والمؤلف الموسيقي الذي يرصّع اللحن الأصلي بجواهره الخاصة به والتي تضفي على اللحن جمالاً على جمال وعظمة على عظمة من دون المساس بجوهر اللحن.
فمن يجرؤ على أن يضيف شيئاً من روحه وخبرته غير صفوان بهلوان.. كل إضافة كانت بمقدار ومكيال صائغ المجوهرات الحاذق.
لقد آثر المايسترو أندريه معلولي مدير دار الأوبرا أن يقدّم الأستاذ صفوان على طريقته، إذ فاجأ الأستاذ صفوان والجمهورَ على حد سواء بڤيديو للموسيقار عبد الوهاب وهو يقول: أُقدّم للشعب السوري الشقيق الفنان السوري صفوان.. مع تمنياتي الطيبة للشعب السوري الحبيب بالسعادة والهناء والنصر بإذن الله».
بعد ذلك صعدت الأوركسترا الوطنية السورية للموسيقى العربية إلى المسرح بقيادة المايسترو الشاب البارع عدنان فتح الله… فرقة مؤلفة من 52 عازفاً من أمهر العازفين الأكاديميين في سورية بالإضافة إلى عشرة من أفراد الكورال.
بدأ الحفل بمقطوعة «سماعي» من مؤلفات صفوان وبعد الانتهاء منها استقبلت الفرقة وقوفاً وبمنتهى الهيبة والجمال الموسيقار صفوان بهلوان وهو يعتلي المسرح وسط ترحيب كبير وتصفيق حار من الجمهور الذي انتظر عودته إلى بلده الحبيب طويلاً، كان أفراد الفرقة ينهضون وقوفاً في نهاية كل أغنية وهي لفتة احترام.
استهلّ الحفل برائعته «يا ليالي الشام» من ألحانه وكلمات الشاعر الإماراتي الراحل سلطان عويس، استهلال مبهر توزيعاً وأداء، لحن بديع يرسم جمال الشام وطبيعتها، الغنّاء بعينَيْ شاعر عربي عشق الشام وتغنّى بجمالها.
تلا القصيدة الرائعة لعبد الوهاب «الصبا والجمال»، ثم قصيدة «يا طيور الحب» من كلمات وألحان الموسيقار صفوان بهلوان بأدائه الساحر كما لو أننا في حديقة قصر ملكي والطيور تشدو عبر صوته، وكم أسعدنا بتصفيرته التي رافقت الموسيقى في أجواء سحرية منقطعة النظير.
ثم موّال «أشكي لمين الهوى والكل عذالي» لعبد الوهاب الذي تألّق فيه وراح يصدح بصوته القوي والرخيم في آن وبمنتهى الإحساس والرقة وسط إعجاب الجمهور واستحسانه.
وبالتناوب بين العملاقين الأستاذ والتلميذ عاد الأستاذ صفوان ليحلّق بنا في أغنيته الشهيره «دوّار يا بحر الهوى دوار»، فللبحر في صوته وألحانه وكلماته قصة شجون، ثم يعود إلى رائعة عبد الوهاب «يا دنيا يا غرامي» وتلك التتقّلات الجميلة بين الغربي والشرقي بحرفية ومقدرة عالية.
توسّطت الحفل معزوفة «لونغا صفوان» من مؤلفات الموسيقار صفوان تفوّقت فيها الأوركسترا على نفسها نظراً لصعوبة تنفيذها والتركيب الأوركسترالي والأسلوب الجديد في الكتابه الموسيقية لمثل تلك الأعمال.
اختتم الموسيقار الحفل بالقصيدة الخالدة «النهر الخالد» التي وضع فيها كل أحاسيسه وبراعته في الأداء وسط تفاعل الجمهور واستحسانه.
وأخيراً بباقات الورد والتصفيق وقوفاً ودّع الجمهور فنانه الكبير الذي يتميّز بكاريزما نادرة لا يملكها إلا القلة بوقفته الشامخة وحضوره اللافت فضلاً عن أناقته في المظهر والصوت والحديث، مثنياً على تلك المفاجأة في تقديمه، وشاكراً مدير الهيئة العامة لدار الأسد للثقافة والفنون المايسترو اندريه المعلولي، ومحيّياً الفرقة الوطنية السورية للموسيقى العربية التي يقودها المايسترو عدنان فتح الله التي تشاركه العزف ضمن فعاليات «ثقافتي هويتي».
الموسيقار بهلوان عبّر عن سعادته بهذا العرس الثقافي الجميل الذي تُزفّ فيه الموسيقى كعروس، وتمنّى أن يعمّ السلام ربوع بلاده سورية مهد الحضارة والثقافة التي أهدت العالم الأبجدية وكتبت أول مُدوّنة موسيقيّة شكّلت أساس كتابة الموسيقى.
على سبيل الذكر الموسيقار صفوان بهلوان كرّمته كبريات المهرجانات العربية كالمغرب وتونس التى منحته لقب (أفضل صوت عربي) وعُمان وأوّلها مصر التي كان ضيفاً على معظم مهرجاناتها في كافة دور الأوبرا المصرية.
درس الموسيقى في معهد فؤاد الأول بمصر ثم توجه إلى ألمانيا ليتابع دراسته الأكاديمية، عزفت أوركسترا برلين سيمفونيته الرائعة «الربان والعاصفة» في عدد من العواصم الأوروبية، ملحن قصيدة «جبهة المجد» للشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري والتي أدتها المطربة ميادة الحناوي، لحّن قصيدة «لنا الأرض» للمطربة الراحلة ربى الجمال. وما مقالي هذا سوى ومضة من ومضات الجمال الكثيرة التي عشتها في تلك السهرة الأسطورية.
*كاتبة وإعلامية سورية.