مفاوضات ترسيم الحدود البحريّة جنوباً توقفت؟ هل تُستأنف؟ وكيف…؟
العميد د. أمين محمد حطيط _
في الثالث من تشرين الثاني/ نوفمبر المنصرم أيّ قبل شهر من الآن، وبعد أن اطلعت على ما قيل إنه مواجهة بين لبنان والعدو «الإسرائيلي» حول طرح المطالب اللبنانية في الحدود البحرية التي انعقدت مفاوضات الناقورة غير المباشرة بين لبنان و»إسرائيل» لترسيمها، بعد هذا كتبت مقالاً تحت عنوان «صُدمت إسرائيل! فهل تنسف مفاوضات ترسيم الحدود البحريّة؟”. كتبت هذا انطلاقاً من معرفتي بالطبيعة “الإسرائيلية” وتحليل أدائهم وسلوكياتهم في التفاوض، وبالفعل وصلنا اليوم الى وضع يشير إلى أنّ مصير المفاوضات بات تحت علامة استفهام كبيرة، ويكاد الموضوعيّ من المراقبين يقول بأن “إسرائيل نسفت المفاوضات أو تكاد”، فلماذا وصلنا الى هنا وهل تحقق ما كنا توقعناه؟
في البدء لا بدّ من التذكير بنظرة “إسرائيل” للتفاوض مع الغير، فـ “إسرائيل” تستثمر التفاوض أولاً من أجل كسب الوقت لإعداد شيء ما تفاجئ به خصمَها في سياق سياسة الأمر الواقع، أو تذهب الى التفاوض من أجل الاستحصال على تسليم أو إذعان الخصم بما تريد، فإذا اضطرت مرحلياً للتوقيع على شيء يستفيد الخصم منه فإنها تلحس توقيعها قبل أن تخرج من غرفة التفاوض والتوقيع، أيّ أنّ “إسرائيل” تريد التفاوض إما لكسب الوقت والتسويف وتنتهي المفاوضات إلى فشل، أو لانتزاع توقيع الخصم على إملاءاتها، أو توقع وتعطي شكلاً وتتنصل فعلاً من التنفيذ.
هذه الصورة ليست كلّ شيء في تعاطي “إسرائيل” مع الآخر والتفاوض معه لفصل النزاع على مطلب أو ادّعاء في مواجهة ما، فـ “إسرائيل” أيضاً تحب دوماً لعب دور الضحية في الوقت الذي تكون فيه تمارس دور الجلاد اللئيم، كما أنها تخشى على ما في يدها من مكاسب وتتجنّب الدخول في ميدان يؤلمها فإذا كان لدى الخصم من القوة ما يمكنه من إنزال ألم بها… هنا وهنا فقط وخشية هذا الألم تضطر “إسرائيل” للتفاوض المجدي، وللتنفيذ الفعلي على ما تمّ الاتفاق عليه، وبمعنى آخر إنّ “إسرائيل” التي لا تنظر إلا إلى مصالحها والتي لا تخشى إلا من القوة التي تؤلمها وتهدّد هذه المصالح، انّ “إسرائيل” هذه تحسب للخصم حساباً من خلال ما يملك من قوة وليس من خلال ما له من حق أو يكسبه القانون حق.
على ضوء ذلك ولأنّ لبنان يملك قوة مركّبة تحمي حقوقه في المنطقة الاقتصادية البحريّة جنوباً، دخلت “إسرائيل” معه عبر وسيط أميركي في تفاوض غير مباشر خلال السنوات السبع الماضية وعبر حركة مكوكية بين لبنان وفلسطين المحتلة، أفضت إلى ما أسمي “اتفاق إطار” التفاوض غير المباشر، الذي قيل فيه إنه وضع إجراءات التفاوض غير المباشر دون ان يتصل مضمونه الى الحق وأسسه.
لكن “إسرائيل” كما يبدو من تصرّفاتها بدءاً من الجولة الأولى الافتتاحيّة للمفاوضات غير المباشرة التي انعقدت في الناقورة في 14/11/2020 تصرّفت وكأنّ هناك اتفاقاً ما أبرم في المضمون تحت الطاولة، وأنّ وظيفة جلسات الناقورة إسباغ الشكل القانوني عليه، بمعنى أنها انطلقت مطمئنة الى أمور أساسية خمسة:
ـ الأول تخطّي المرجعيات القانونية التي تكرّس حقّ لبنان في الحدود البحرية وإخلاء أرضه براً من الاحتلال الإسرائيلي (اتفاقية بوليه نيوكمب – اتفاقية الهدنة – اتفاقية قانون البحار – القرار 425).
ـ الثاني حصر التفاوض بمساحة 862 كلم 2 هي المساحة الناشئة من خطي (1) و(23) ورأس الناقورة.
ـ الثالث التفاوض شبه المباشر وصفاً والمباشر فعلاً مع تحييد دور للأمم المتحدة من الرعاية وحصره في المسائل اللوجستية فقط.
ـ الرابع، القناعة بأنّ التفاوض لن يمسّ بأي مصلحة “إسرائيلية” تمّ تكريسها بالأمر الواقع مهما كانت طبيعة هذه المصلحة وتأثيرها على الحقوق اللبنانية.
ـ وأخيراً كانت “إسرائيل” مطمئنة الى انّ وجود الأميركي شاهراً سيف الضغط والعقوبات على رقاب المسؤولين اللبنانيين كافٍ وحده لإجبارهم على الإقرار والإذعان لما يُفرض عليهم “إسرائيلياً”.
بهذه الظنون أو الوعود أو التطمينات، ذهبت “إسرائيل” إلى الناقورة مطمئنة الى النتائج، لكنها صُدمت عندما شاهدت وسمعت وعاينت أداء الوفد اللبناني الذي كذّب ظنونها وتصوّراتها في كلّ ما كانت ذهبت إليه، حيث إنّ الوفد تمسك منذ اللحظة الأولى بالاتفاقيات المرجعية الأساسية التي أسقطها “تفاهم الإطار”، وتعامل مع الأمر على أساس أنّ كلّ ما كان قائماً قبل التفاوض يبقى خارج خيمة التفاوض وأن لبنان جاء ليثبت حقه وفقاً للقانون الدولي، وليس هو هنا ليبني على أخطاء ارتكبت أو وعود قطعت أياً كان المرتكب او الذي قطع الوعود طالما انّ الوضع بقي من دون اتفاق ملزم بين لبنان وبين “إسرائيل”، فأخطاؤه التي لا تكون “إسرائيل” طرفاً فيها لا تنال منها حقاً مكتسباً ولا تقيّده تجاهها.
وبهذا تجاوز الوفد مساحة الـ 862 كلم2 التي قيل إنها صلب النزاع، أما بين المباشر وغير المباشر فقد حرم الوفد اللبناني “إسرائيل” فرصة التقاط صورة ولو يتيمة معه او توجيه خطاب مباشر له، وأخيراً فإنّ لبنان وتحديداً رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الذي يتولى أمر التفاوض والإشراف المباشر عليه بمقتضى الدستور، وهو حق حصري له، انّ لبنان بشخص رئيسه لم ترعبه أميركا وعقوباتها، رغم أنها أنزلتها بالوزير جبران باسيل صهر الرئيس ورئيس التيار الوطني الحر، وبقي متمسكاً بحقوقه لا يعترف لأحد بمصالح تمسّها رغم الترهيب والتخويف والضغط التي تمارسه أميركا عليه.
وهكذا يكون لبنان قد خيّب العدو “الإسرائيلي” وأجهض آماله من المفاوضات، وطالت الخيبة أميركا التي تصوّرت أنها في المئة يوم الأخيرة من ولاية ترامب ستهدي “إسرائيل” من لبنان حدوداً بحرية تستجيب لمطالبها ولمصالحها، وصورة ثنائية يعتدّ بها لتكون خطوة على طريق التطبيع الذي أطلقت “إسرائيل” مع حكام الخليج قطاره.
إنها خيبة مزدوجة للأميركي و”الإسرائيلي” على حدّ سواء، ولأننا نفهم الطبيعة “الإسرائيلية” فإننا توقعنا أو تصوّرنا انّ “إسرائيل” ستسعى الى نسف المفاوضات التي أتت بالنسبة لها عقيمة طالما أنها لن تستجيب لطموحاتها، وهذا كان بالفعل المطلب “الإسرائيلي” بوقف التفاوض الآن وتأجيله الى أجل غير مسمّى تنتظر فيه “إسرائيل” معالجة الوضع والقرار في لبنان بواحد من أربعة حلول:
ـ الأول خضوع العماد ميشال عون تحت وطأة الضغوط الأميركية القاسية جداً، والتي جاء بها الأميركي بالأمس شاهراً سيفه عليه وعلى دائرته الشخصية وعلى لبنان تجويعاً وانهياراً وفراغاً سياسياً، خضوعه والعودة الى ما تقول به “إسرائيل” اتفاقات تحت الطاولة والاكتفاء بـ 500 كلم2 “منحها” فريدريك هوف للبنان يوم كان يقود الوساطة مع “إسرائيل” في العام 2014.
ـ الثاني انتظار انتهاء ولاية العماد ميشال عون في حال تمسكه بالحقوق اللبنانية، والتعويل على رئيس جمهورية جديد يأتي خلفاً له ويكون سريع التنازل كما هو حال الحكام العرب الآخرين، وهنا يكون على الجميع انتظار سنتين تقريباً من الآن لانطلاق التفاوض، هذا إذا رأت اميركا حاجة إليه ولم تقدم على توقيع اتفاق تعدّه هي في واشنطن وتأتي به الى لبنان لأخذ توقيعه.
ـ الثالث انتظار وقوع مواجهة عسكرية بين لبنان و”إسرائيل” تنتصر فيها الأخيرة التي تعدّ نفسها دائماً لحرب على المقاومة، وعند ذلك لا تكون “إسرائيل” بحاجة الى توقيع اتفاق او تفاوض عليه، بل ستكون سياسة الفرض بالأمر الواقع كما هو حالها مع الاستيطان او احتلال مزارع شبعا. او أصل احتلالها لفلسطين.
ـ إدراك “إسرائيل” بأنّ أيّاً من الأوضاع الثلاثة لن يتحقق، واضطرارها لبتّ النزاع والانطلاق في التنقيب الآمن بعيداً عن صواريخ المقاومة، هنا ستضطر للعودة والمناورة ما استطاعت وهو احتمال غير قويّ.
أما لبنان فإنه بقي متمسكاً بالحلّ المنطقي والحقوقي والعقلاني الذي يقوم الآن – بعد أن وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه وارتضى بالتفاوض غير المباشر بالصيغة القائمة – موقف يقوم على الاستمرار بتفاوض غير مباشر وحمل “إسرائيل” على الإقرار بحقوق لبنان وفقاً لأحكام القانون الدولي العام، كما قدّمها وفده في الناقورة وهي حقوق تحميها القوة اللبنانية الثلاثية الأبعاد… قوة الحق قانوناً، وقوة الموقف رسمياً متجسّداً بالرئيس عون والوفد العسكري – التقني المفاوض، والقوة العسكرية ميدانياً من جيش ومقاومة، حقوق على أساسها يمكن استئناف التفاوض، وحتى حينه سيجد لبنان نفسه معنياً باستعمال القوة من أيّ نوع متاح لمنع “إسرائيل” من الاستثمار النفطي في المنطقة المتنازع عليها والتي تبلغ مساحتها 2290 كلم2 حسب الخرائط التي قدّمها الوفد اللبناني الى الناقورة.
*أستاذ جامعي – باحث استراتيجي