الصحافي والأديب حليم بركات من قبو «رأس بيروت» إلى جامعة «جورج تاون»
الباحث والأديب الرفيق جان داية
محالة إليّ من الأمين الدكتور ادمون ملحم (ملبورن)
التقيت به في أواخر الخمسينات بعد أن كنت انتميت إلى الحزب (1956)، ورحت أتردّد إلى بيت الطلبة في رأس بيروت، فألتقي أيضاً الرفقاء خالد قطمة، جورج جحا، جبرائيل قنيزح، فايز ورامز غصن، هيكل حداد، حسن فضل الله، آمال مهتار، ليلى شقير، حسن زهري، لور حريق، والعشرات العشرات غيرهم وغيرهن.
شكراً للرفيق جان داية على الكثير الحلو ممّا قدّمه للمكتبة القومية الاجتماعية، ولقرّاء العربية بشكل عام، وشكراً للأمين د. ادمون ملحم على اهتمامه المستمر بموضوع تاريخ الحزب، وعلى الباقة الرائعة من الأبحاث والدراسات التي صدرت له في عديد من الكتب والمجلات والصحف.
ل. ن.
* *
في كتابه الأخير «المدينة الملوّنة» الذي قدّمه حليم بركات لقرائه على أنه مجرد رواية، هناك أسرار وذكريات وسيرة حياة تستحق أن تُعرف. لأسباب كثيرة ألبس بركات أبطال كتابه / سيرته أسماء ليست لهم، وربما أنّ صفية ابنة أنطون سعاده التي أحبها بشغف في شبابه، وحيل بينه وبين الزواج منها، هي إحدى تلك الشخصيات التي أراد أن يروي حكايتها مواربة. لكن صفية اليوم لا تجد حرجاً في ذلك، ومع هذا فحليم بركات فضّل لعبة الأقنعة.
تأثر حليم بركات بجبران خليل جبران في مطلع حياته الأدبية اسوة بالعديد من الذين سبقوه وعاصروه أمثال فؤاد سليمان. وإذا كان تأثره الواعي قد نتج عن «عذوبة كلماته وصوره ورموزه والدروب التي سلكها في حدائق القلب»، فإنّ التأثر اللاواعي يعود إلى الشبه الكبير بين أم جبران كاملة، ومريم أم حليم. الأولى، لم تترك وطنها الأصغر بشري لترفع اسم لبنان عالياً في سماء بوسطن، وإنما فعلت ذلك هرباً من الجوع وتوقاً إلى توفير مستقبل مشرق لأولادها، ومنهم جبران بعد إهمال زوجها لها وللعائلة. والثانية، تركت الكفرون السورية، باتجاه بيروت للسبب نفسه، بعد وفاة زوجها. ولأنهما غير متعلمتين، فقد مارستا مهنة شريفة ووضيعة وهي الخدمة في البيوت. ونجحتا في تحقيق هدفهما. لعل أفضل برهان لنجاح كاملة البشراوية، ومريم الكفرونية، أنهما وفرا الطعام والمدرسة والمنزل المتواضع لجبران وحليم، ليحلّقا في سماء الأدب باللغتين العربية والإنجليزية، وفي الشرق القديم والعالم الجديد.
جبران وحليم: الأمزجة المتناقضة
ولكن حليم يختلف عن جبران، حين يتكلم عن شجرة العائلة. فجبران يؤكد لصديقته ماري هاسكل أن السجاد يُفرش له لحظة يهبط من سلم الباخرة في ميناء بيروت، وأن أسدين يستقبلانه على مدخل بشري، في الوقت الذي يعتم تماماً على الوظيفة التي مارستها أمه وسط الجالية في بوسطن. أما حليم بركات، فلا يتردد، رغم معارضة أخيه فؤاد، في القول إنّ الوقت لم يعد يسمح لأمه كي تحك رأسها، حين انتقلت من الكفرون إلى رأس بيروت، «لكثرة الشغل من تنظيف وغسيل وجلي وطبخ وعجن».
كانت مريم قد أبقت حليم وكمال وندى في الكفرون، كي يصبح بإمكانها توفير المدرسة والمنزل. وبعد أن امتلأت «قجتها» الصغيرة، قررت استئجار شقة قبيل استدعاء أولادها. بعد السلام والسؤال، ألقت صاحبة الشقة، أم سعد الدين محاضرة باللهجة البيروتية قالت فيها: «شوفي يا أختي، أنا من بيت الطقوش وزوجي من بيت العيتاني. ديننا الإسلام يعلمنا الرحمة والعطف على الأرامل والأيتام. عندي غرفة صغيرة تحت الأرض، ان شاء الله تناسبك. وعلى كل، الايجار لا نختلف عليه، حسب قدرتك على الدفع».
واستأجرت ام حليم مستودع الحطب. وحين تمكنت من «شراء حصيرة ومساند ينام عليها اولادها»، التأم شمل العائلة في مطلع سبتمبر (ايلول) 1942، وكان الابن البكر حليم في السادسة من عمره.
تلميذ متفوق حد كسر الحواجز
بدأ الطفل حليم حياته الدراسية، بصورة مؤقتة، في مدرسة الكبوشية في شارع الحمرا. وسرعان ما انتقل إلى ميتم «الفرندز» في رأس المتن. اما لماذا لم يتعلم في «فرندز» برمانا، فلأن هذا الفرع الرئيسي قبلة انظار ابناء العائلات الثرية. والطريف، ان حليم، بعد تخرجه من الجامعة، درّس في مدرسة الفرندز البرمانية.
ومن رأس المتن، هبط حليم إلى رأس بيروت ليكمل دروسه في الاعدادية (I.C) التابعة للجامعة الاميركية، في العام 1949. وفي الاعدادية نشر باكورة قصصه القصيرة في المجلة الطلابية «صدى النادي» التي أشرف على تحريرها الاديب فؤاد سليمان الملقب بـ «تموز» واستاذ العربية في الاستعدادية. وخلال اطلاعي على سجله في ادارة المدرسة، تبين انه كان متفوقاً في مادتي التاريخ واللغة العربية، خصوصاً في العام الاول، وناجحاً في سائر المواد. فقد بلغت علامة العربية في فبراير/شباط 93% وعلامة التاريخ 94%.
ولم تقتصر حياة حليم في الاستعدادية على الدروس وكتابة القصص، بل هي شملت ايضاً السياسة، وأدت إلى اعجابه ببعض الطلبة المنتمين آنذاك إلى حركة القوميين العرب ممن لعبوا دوراً بارزاً في الحقل السياسي امثال جورج حبش ووديع حداد الفلسطينيين، واحمد الخطيب الكويتي، ووديعة حداد، شقيقة وديع، التي باتت تعرف بوديعة جرار بعد زواجها من صديق حليم مروان جرار. وكان لوديعة وزوجها دور كبير في «مهرجانات بعلبك» الفنية عبر «فرقة الانوار» التي اسساها مع الصحافي الراحل سعيد فريحة ولعب زكي ناصيف ووديع الصافي، ادواراً فنية رئيسية في حفلاتها التي اقيمت في «مدينة الشمس» منذ نصف قرن.
لم يكن حداد وحبش وحيدين بين الطلاب الذين تخصصوا في حقل الطب، ومارسوا العمل السياسي. فقد سبقهما طبيب البلدان والابدان شبلي شميل، وعاصرهما القومي عبد الله سعاده ومنصور ارملي الماركسي الذي لمع في واشنطن، وكان من زوار عيادته حليم بركات.
واعتبر حليم ان للدكتور قسطنطين زريق، و«جمعية العروة الوثقى»، دوراً ملحوظاً في تنشيط الايديولوجية العروبية في اوساط «الجامعة الاميركية» في بيروت. وبالمناسبة، فمن القصائد ـ الاناشيد التي ندم الشاعر سعيد عقل على نظمها، النشيد الرسمي للعروة الذي يقول في مطلعه:
للنسور ولنا الملعب…. والجناحان الخضيبان بنور العلى والعربُ
وعندما عبر حليم بوابة الاعدادية باتجاه «الجامعة الاميركية»، كان يعبر، في الوقت نفسه، بوابتين عريضتين: اولى، ادبية، اطل بها على عالم الرواية والقصة القصيرة متأثراً بالاديب المبدع الساخر سعيد تقي الدين… وثانية، سياسية، انتمى خلالها إلى حزب انطون سعاده، وكان لصديقه وابن منطقته (صافيتا) منير بشور دور ملحوظ في انتمائه اليه.
يقول حليم: «اسعدني جداً انني تعرفت إلى سعيد تقي الدين الذي حبب لي كتابة القصة، واكتشفت انسانيته التي تفيض طيبة وكرماً. فكان من القلائل الذين يجمعون في شخصهم بين الروعة في كتاباته الساخرة وسلوكه في الحياة العامة». ويؤكد، من جهة اخرى، ان منير بشور ـ استاذ في الجامعة الاميركية ـ او عادل الاميوني كما يحلو له تسميته، قرّبه من الحزب القومي بعد ان اعطاه كتابي سعاده «المحاضرات العشر» و«نشوء الامم»، لكنه تأثر بالكتاب الثالث «الصراع الفكري في الادب السوري» لأنه «مولع بالادب اكثر من السياسة».
الكاتب الصدامي ذو المظهر الهادئ
واتسعت شبكة علاقات حليم بالأدباء والصحافيين أمثال يوسف الخال، وادونيس، ومحمد الماغوط، وانسي الحاج، خصوصاً بعد اصداره في تلك الحقبة ثلاث مجموعات قصصية، ودخوله عالم الصحافة هاوياً في «الزوابع» و«النهار» و«المجلة» ومحترفاً في «البناء» التي تولى ادارة صفحتها الثقافية.
ويوحي مظهر حليم بركات الهادئ، بأنه في حقل الكتابة، بعيد عن الحوارات التصادمية والنقد اللاذع. ولكن المظهر يخفي، كالعادة، جوهراً مناقضاً. وعلى سبيل المثال، عندما كتب صديقه يوسف الخال، في جريدة «النهار» بتاريخ 6 اكتوبر 1960 ان «ادونيس شاعر لبناني مولود في احدى قرى جبال العلويين. تبنانا وتبنيناه منذ لفظه موطنه الاول وأصبح بدون وطن. ما من عربي ذي قيمة، لا وطن له ولبنان موجود. بهذا لبنان لبنان. جغرافيته لا تعرف حدوداً في الارض. حدودها في النور». رد عليه حليم، في الجريدة نفسها حيث دعاه إلى التمييز بين الوطن والنظام القائم آنذاك الذي هجّر ادونيس لأسباب سياسية. ثم انتقل إلى لبنان الذي تغزل يوسف به تغزل العاشق بحبيبته، فذكّره بأمرين: الاول انه – اي يوسف ليس لبنانياً، والثاني ان لبنان ليس بلداً ديمقراطياً لسبب بسيط وهو انه يعتمد نظاماً طائفياً.
نشر الرد تحت عنوان ملفت «ادونيس شاعر غير لبناني». ومثل معظم العناوين، لم يكن العنوان من نظم الكاتب وتلحينه، بل من ابداع مسؤول الصفحة الثقافية آنذاك الشاعر والناثر انسي الحاج الذي يعتبره حليم «سيد من يعرف كيف ينتقي مواضيع سجالية ويجتذب من خلال العنوان، اهتمام القارىء».
ولم يأخذ على خاطر الخال من رد بركات في «النهار» ومن ردوده الاخرى، خصوصاً المتعلقة بالدكتور شارل مالك. فقد رد الخال بابتسامة حين اتهمه بركات في حوار جرى في منزله بحضور منير بشور، بأنه كمعلمه مالك «يتكلم عن الحرية بمنهج مطلق واستبدادي من الاعالي».
حبيبة الصبا: صبا أم صفية
وقبل زواجه، احب حليم بركات فتاة، كان لها اثر كبير في حياته الحزبية والروائية. هو يطلق عليها اسم «صَبَا» في كتابه الأخير «المدينة الملونة»، واسمها الاول الحقيقي صفية. كانت رفيقته في الحزب القومي. وتطورت الرفاقة إلى صداقة، فحب، ولقاءات سرية في مصيف ضهور الشوير والعاصمة بيروت. وكان يمكن ان تتوج العلاقة بالزواج، لولا تدخل احد مسؤولي الحزب، واصدار الامر لحليم بوضع حد «للطلعات» وقطع العلاقات.
ولم يصدر «الامر» تطبيقاً لقاعدة، بل حالة استثنائية. فصفية هي الابنة البكر لمؤسس الحزب أنطون سعاده. ونفذ حليم الامر رغم عدم قناعته به. وكان من تداعيات ذلك، تركه الحزب، واصداره رواية «ستة ايام» حيث يحكي فيها قصة حبه من الـ»طق طق» حتى السلام عليكم. اما الدكتورة صفية، فقد اكدت لي على الهاتف منذ ايام، ان حالة الاستثناء لا مبرر لها، خصوصاً وان والدها لم يكن متزمتاً، ولم يسبق له ان أصدر امراً مماثلاً منذ تأسيسه الحزب في العام 1932، حتى اعدامه في العام 1949.
وهاجر حليم إلى بلاد العم سام ليكمل دروسه العليا، ويصبح استاذا في جامعة جورج تاون واشنطنية اسوة بهشام شرابي. وخلال حياته الاكاديمية، اصدر مجموعة من الروايات والابحاث الفكرية والسياسية، باللغتين العربية والانكليزية. وبعد تقاعده من العمل الاكاديمي، اصدر كتابه الاخير «المدينة الملونة»، الصادر عن «دار الساقي»، والذي اقتبست عنه العبارات الموضوعة بين اهلة. والظاهر انه لن يتقاعد عن الكتابة، بدليل ان مذكراته قد البسها عباءة روائية، واسند دور البطولة فيها لنادر الكفروني بدلاً من حليم اسبر بركات…الكفروني.