عودة فرنسيّة إلى عصر الفرنجة!
} د. وفيق إبراهيم
يختصر الرئيس الفرنسيّ ايمانويل ماكرون الأساليب العلمية في معالجة التراجعات الاقتصادية وذلك بالعودة الى التحريض الطائفي والعرقي كوسيلة لوقف تدهور شعبيته الآخذة في التقلّص.
فهل يمكن مجابهة الانخفاض في مستوى الدولة الفرنسية الى الدرجة الثالثة عالمياً باتجاهات غير اقتصادية وسياسية؟ يبدو ان هذا ما توصل اليه ماكرون باعتماد الطريقتين: اختيار «عدو» يمكن جمع الفرنسيين بواسطته، وانتظار التطورات العالمية وانحسار «كورونا» لمحاولة إيجاد دور لفرنسا من خلال الشرق الاوسط.
ما يجري اليوم في فرنسا هو تطبيق للجزء الاول من الخطة، فبدا واضحاً ان ماكرون استند الى مقتل مدرس فرنسي رسم صوراً مسيئة للنبي محمد على يد إرهابي من المسلمين الفرنسيين.
لا شك في أن الحادثة شنيعة وتتطلب تدقيقاً امنياً فرنسياً في مدى انتشار التنظيمات الارهابية الإسلاموية في فرنسا، بهدف القضاء عليها.
لكن هذه الاجهزة الامنية تعرف بعمق ان اوروبا بكاملها وفي طليعتها فرنسا وبالتعاون مع مثيلاتها الأميركية والخليجية والتركية نظموا منذ 2011 أكبر عملية تسهيل مرور وتنظيم لمئات آلاف الارهابيين الذين انتقلوا من بيئاتها الاسلامية الى سورية والعراق وتركيا.
فعندما كان هذا الارهاب يضرب ويقتل في سورية والعراق كان الأميركيون والأوروبيون وحتى الآن يوقعون عقوبات على الدولة السورية التي لا تزال حتى الآن تقاتل هذا الإرهاب.
فكيف يمكن لفرنسا ان تتحالف مع هذا الارهاب حيناً وتعاديه حيناً آخر؟
لذلك يجب الانتباه الى ان توقيت هذه الحملة الفرنسية الحالية على الإرهاب يثير الشبهة لتزامنه مع انهيار المشروع الارهابي في سورية خصوصاً، بما يؤشر الى انتهاء مرحلة تصدير الإرهابيين الى الشرق الاوسط او تراجعها الى عيارات ثانوية.
هذه التطورات ترافقت مع انتشار جائحة كورونا عالمياً بما أدت اليه من تراجعات اقتصادية عالية المستوى، جعلت فرنسا تعاني منها طبياً واقتصادياً ايضاً، ما اضاف على فقدانها للقسم الأكبر من دورها العالمي القديم، خسارات اقتصادية وجيوبوليتيكية وضعتها خلف اليابان والمانيا.
داخلياً، أدت هذه الخسائر الى فقدان ماكرون للقسم الأكبر من شعبيته في أوساط الطبقة الوسطى الفرنسية المترنحة بفعل انحسار الاقتصاد، فماذا يفعل لاستعادتها؟ خصوصاً أن تدابيره الأمنية الإضافية المسماة «الأمن الشامل» لقيت رفضاً شعبياً لأن الفرنسيين ادركوا انها اسلوب لقمع الانتفاضات الاجتماعية لفقراء فرنسا تحت واجهة «بناء آمن منضبط».
بذلك بدأ ماكرون بتطبيق الجزء الاول من خطته وهو اختيار عدو داخلي يستطيع عبر مجابهته تحشيد أكبر قدر ممكن من الفرنسيين حوله.
وجاءته حادثة قتل المدرس الفرنسي على يد إرهابي إسلاموي الفرصة المناسبة، فاختار إعلان خطة ضخمة تريد كما تزعم تطهير المناطق التي يسكنها مسلمون فرنسيون في العاصمة والمدن والارياف من المنظمات الإرهابية. هذا يعني مداهمة مقار نحو ستة ملايين مسلم تقريباً لديهم مئات الجوامع وآلاف المقاهي ومئات آلاف المنازل.
بالتزامن تركز الدولة الفرنسية على إطلاق صيحات عالية جداً بمجابهة ما اسمته الانفصال الاسلامي كما اعترفت انها بصدد إقفال نهائي لمئات المساجد والمراكز.
هذا اذاً هجوم فرنسي كبير على مسلمين معظمهم مولود في فرنسا وقسم آخر ممن يحوز على جنسيتها. هؤلاء هم عمالة فرنسا التي تؤدوي الوظائف المنخفضة التي لا يقبل الفرنسيون بمزاولتها.
وها هي فرنسا ترد لهم الجميل بتحميلهم وزر إرهابي من داعش او النصرة ذبح مدرساً فرنسياً بطريقة شنيعة لا يقبلها المسلمون الفرنسيون.
لكن حاجة ماكرون الى إعادة ترميم شعبيته دفعته الى هذا المنحى الإسلامي الفرصة التاريخية الملائمة للعودة الى القاعدة الشعبية الفرنسية من أبناء البيئات الفقيرة والوسطى، وذلك باستعمال الإعلام لإيهامهم بأن استهداف المسلمين الفرنسيين يرمي الى تضييق فرص العمل لهم فيعود قسم منهم الى بلدانهم في شمال أفريقيا العربية وبعض انحاء افريقيا.
بذلك تستطيع الفئات الكادحة من الفرنسيين البيض العثور على وظائف في مواقع مختلفة.
هناك قسم آخر من الإعلام اليميني الفرنسي يحاول تصوير هذه الحملة الفرنسية وكأنها حملة مسيحية على انتشار الإسلام في فرنسا.
لذلك تبدو مراوغات ماكرون شديدة الوضوح، خصوصاً عندما يتكلم عن مجابهة الاسلام الانفصالي في فرنسا. وهو يعلم ان المسلمين الفرنسيين لا يمتلكون جغرافيا فرنسية خاصة، فهم منتشرون في كل الأحياء الفقيرة في فرنسا الى جانب مهمشين فرنسيين.
ولا يمكن لبعض مئات من المساجد والمدارس الصغيرة التأسيس لثقافة إسلامية مستقلة عن ثقافة فرنسا.
هذا لا يمنع من تأييد الملاحقة الفرنسية لتنظيمات الإرهاب انما من دون أي مساس بالأمن الاجتماعي والاقتصادي للمسلمين الفرنسيين بواقع انهم مواطنون فرنسيون.
لكن هذا الأمر يحتاج الى إلغاء امكانية استخدام المسلمين كوسيلة لتحشيد أصوات انتخابية لماكرون، لأن مواصلة التحشيد على هذا النحو تنتج صدامات بين اليمين الفرنسي المتطرف وهؤلاء المسلمين الفرنسيين وربما بتغطيات من أجهزة أمنية، «ماكرونية».
لا بد في النهاية من التأكيد ان عودة فرنسا الى الشرق الاوسط لا تكون باستهداف المسلمين فيها.
فهناك شعور بالاستياء من سياسات ماكرون الذي يدّعي وصلاً بالديموقراطية والحريات فيما تساهم سياساته الحالية بأسوأ حملة عنصرية تشابه ما حاول الرئيس الاميركي ترامب فعله في بلاده.