روسيا وتركيا وترتيبات المشهد النهائي في سورية… تبادل مناطق النفوذ
} أمجد إسماعيل الآغا
لعبة التوازنات الروسية التركية خضعت لمتغيّرات عديدة. اللاعب الروسي لطالما غيّر من موقعه في هذه اللعبة، وأعاد صياغة سياساته وفقاً لأولويات مصالحه، وبما لا يضرّ بجوهر توازنات القوى في الفضاء الإقليمي، الأمر الذي دفع بـ روسيا إلى تغيير قواعد الاشتباك بناءً على معطيات ووقائع أفضت إلى الاعتقاد بأنّ السياسة المتبعة في سورية، لا تخدم مصالح دمشق وموسكو على المدى الطويل، وهنا تبرز جزئية مناطق خفض التصعيد، والتي أبدعت موسكو في هندسة مسارها، وأنهت بموجبها مناطق التوتر الواحدة تلو الأخرى.
ضمن إطار التفاهمات المؤقتة ما بين موسكو وأنقرة، تمكّنت الدولة السورية من العودة إلى جلّ مناطق الجغرافية السورية التي استهدفها الإرهاب. فالسياستان السورية والروسية ارتكزتا على محدّدات عودة جميع المناطق إلى سيطرة الدولة السورية، وذلك وفق آليات سياسية لكن ضمن إطار عسكري محدود، وبذلك فإنّ سياسة الهدن ومناطق خفض التصعيد بوصفها حالة سياسية مؤقتة، كان الهدف منها البحث عن مخارج وبدائل للأوضاع الطارئة في عموم الجغرافية السورية، وصولاً إلى التسوية، والتي تنحصر غالباً في نمط تسليم الأرض للدولة السورية، وتسوية المقاتلين أوضاعهم وتسليم أسلحتهم.
حقيقة الأمر، يتعرَّض صانع القرار الروسي إلى ضغط من قبل القيادات العسكرية الروسية، للخروج من لعبة التوازنات مع تركيا انطلاقاً من كونها لاعباً أقل قدرة مقارنة بـ روسيا، وبالتالي من الخطأ منحها مزايا معينة في سورية أو أيّ ساحات أخرى على حساب المصالح الروسية. لكن في المقابل، فإنّ فلاديمير بوتين ينظر إلى العلاقات مع تركيا في الإطار الاستراتيجي بعيد المدى، دون السماح لنظيره رجب طيب أردوغان بالتمدّد أكثر في ساحات تراها روسيا ميداناً استراتيجياً لها، وتراها تركيا عمقاً استراتيجياً لتطلعاتها.
وما بين الرؤية الروسية وكذا التركية، يرى مراقبون أنَّ تركيا تريد فرض شريط حدودي في الشمال السوري بعمق 30 كيلو متر، يضمن لها السيطرة على المناطق الحدودية التي ستمتدّ من الشمال الغربي وحتى الشرقي منه، وترى تركيا أنَّ تمدّدها إلى مناطق أخرى في عمق الشمال الشرقي لسورية، قد يكون أولها مدينة عين عيسى المتصلة جغرافياً بمنطقة عملية «نبع السلام»، من شأنِهِ أن يبدِّد مخاطر قرْب قوات سورية الديمقراطية من حدودها، بينما ترغب روسيا في التمدّد إلى مناطق جديدة في الشمال الغربي من أجل تضييق الدائرة على القوى المصنفة على قوائم الإرهاب هناك، مثل الحزب التركستاني وجبهة النصرة، ومن يتصل بتنظيم القاعدة، والذين استخدمت تركيا ورقتهم لتعزيز موقعها، إذ لم تعمل على تفكيك تلك القوى وإنهاء نفوذها، بموجب اتفاق موسكو.
من ناحية أخرى، تسعى روسيا إلى تفعيل الحركة التجارية على الطرق الدولية وربطها بميناء طرطوس، الذي يعتبر ضمن نطاق نفوذها، وكذلك حماية محيط قاعدتها الرئيسة في سورية من أيّ هجمات واستهدافات عبر الطيران المسيّر. لذا فإنّ روسيا ستعتزم السيطرة التامة على محيط الطريق الدولي «M4» أسوة بما حصل عقب قيام الجيش السوري بتنفيذ عملية عسكرية واسعة، والاستحواذ على كامل الطريق الدولي «M5» بعد السيطرة على مدن استراتيجية في أرياف حلب وإدلب، كان من أهمها سراقب ومعرة النعمان، إذ تنظر روسيا إلى أنَّ الانسحابات التركية من نقاط المراقبة مقابل المقايضة على مناطق نفوذ يعد أمراً مناسباً لها أيضاً كما هو مع تركيا؛ بحكم الحاجة الجغرافية لتلك المناطق بالنسبة للجانبين.
سيناريو تبادل النفوذ الجديد بين موسكو وأنقرة، يتشابه إلى حدّ كبير مع التطورات الميدانية التي حصلت مطلع العام الحالي، وانتهت بسيطرة القوات السورية على مساحات واسعة من الشمال السوري، فحينها هددت تركيا بشنّ عمليات واسعة لاسترداد ما خسرته الفصائل الإرهابية من أراض؛ وبالأخص بعد حادثة مقتل أكثر من 20 جندي تركي في غارة جوية سورية روسية، وهدَّد أردوغان بتصعيد واسع ضدّ قوات الجيش السوري إذا لم تنسحب من المناطق التي تقدّمت إليها، غير أنَّ المفاجأة تجلَّت في ذهابه إلى موسكو وتوقيعه اتفاقاً مع نظيره الروسي اعترف فيه بقبول الأتراك بالسيطرة السورية على المناطق الجديدة على امتداد الطريق الدولي «M5».
في جانب موازٍ، فإنّ الوجود الأميركي في الشمال الشرقي من سورية، يمثل العنصر المعطل الرئيس لأيّ عملية تبادل لمناطق النفوذ، غير أنَّ استغلال الانشغال بالتجاذبات التي أعقبت الانتخابات الأميركية، سيشكّل رافعة لكلّ من موسكو وأنقرة وحكماً دمشق، بإعادة ترتيب أوراق الشمال السوري، وبناء تفاهمات جديدة بعيدة المدة بين دمشق وأنقرة، بما سيؤسّس لمشهد جديد في أرياف إدلب وحلب، لتبقى ورقة شرق الفرات معلقة حتى انجلاء ضبابية المشهد الأميركي، على الرغم من الانسحابات الأميركية الخجولة من بعض القواعد في شمال شرق سورية.
في المحصلة، يمكننا بناء استنتاجات تختصر بالآتي:
أولاً– عملت تركيا على البقاء في نقاط مراقبتها المحاصرة في الشمال السوري منذ مطلع العام الحالي، من أجل استخدامها ورقة تفاوض لمصلحتها، تقايض بها محاولات دمشق وموسكو للتمدد في مناطق الشمال الشرقي الحدودية.
ثانياً– قد تشهد الفترة المقبلة انسحاباً تركياً جديداً من نقاط مراقبة أخرى، سعياً منها لتوسيع نفوذها داخل الشريط الحدودي الذي تسعى إلى تثبيته مع روسيا.
ثالثاً– تقترب الدولة السورية من التمدّد في مدن جديدة من الشمال الغربي في أرياف إدلب، والوصول عميقاً نحو أريحا وجسر الشغور لتغليب سيطرتها في القطاع الجنوبي من منطقة إدلب لخفض التصعيد، مستغلةً سعي تركيا للذهاب جنوب منطقة «نبع السلام»، وكذلك السيطرة على مدن استراتيجية بالنسبة لها مثل منبج وتل رفعت.
رابعاً- على الأرجح أنَّ روسيا وسورية وتركيا سيحاولون استغلال فترة الانشغال السياسي الراهنة في الولايات المتحدة وأجواء الانتخابات الرئاسية، لتأسيس مشهد توافقي جديد يشمل كافة المناطق في شمال شرق سورية، لكن وفق توقيت دمشق.