ما بعد اغتيال العالِم محسن زاده: اتركوا إيران تتصرّف ولا تستعجلوها!
د. عدنان منصور _
منذ أن اغتيل العالِم النووي الإيراني، الشهيد محسن فخري زاده، ظهرت على الساحة الإعلامية في المنطقة، مئات الأقلام، ليسجّل أصحابها الحدث، ويحللوه على طريقتهم الخاصة، ويكتبوا عنه بتصرّف، ويرصدوه بمنظارهم الخاص، ويُفرغوا من جعبتهم في ما بعد من حلول وآراء وأفكار واجتهادات، حيث ذهب الكثير منهم بعيداً عن الواقع وهم يحللون، ويخططون، وينظّرون ويرسمون، ويكتبون سيناريو المشهد العسكري، وعمليات ميدانه، والفعل وردّ الفعل، وما ينتظر إيران وتفعله لما هو آت، رداً على العدوان الإرهابي الذي نفّذه العدو «الإسرائيلي»، بواسطة خونة من عملائه في الداخل الإيراني.
رغم أنّ موقف القيادة الإيرانية إزاء العمل الإرهابي، كان قوياً وواضحاً وصارماً لا لبس فيه، وهو أنّ الردّ الإيراني آت لا محال، في الوقت والزمان الذي تحدّده. إلا أنّ سيلاً كبيراً من المقالات في هذا المجال، بدأ يتدفّق بغزارة من هنا وهناك، يكتبها «خبراء عسكريّون» «واستراتيجيّون» و»مفكرون» و»باحثون» و»مطلعون على بواطن الأمور» و»مختصون» و»دارسون» في الشأن الإيراني، يضعون أنفسهم مكان القيادة السياسية والعسكرية الإيرانية، ليخططوا وينظّروا بشأن ما يترتب على طهران أن تفعله، أو ما يمكن لها أن تفعله. خرائط ميدانية رسموها، ومواقع عسكرية واقتصادية في المنطقة وخارجها وضعوها وحدّدوها وعيّنوها، لتكون أهدافاً محتملة أو أكيدة لضربات إيران العسكرية، التي ما عليها فقط، إلا أن تضغط على الزناد لتخبط خبطتها العسكرية!
لقد غاب عن أنظار الكثيرين من الذين تناولوا موضوع الاغتيال، أنّ المسألة وحقائق الأمور عند الإيرانيين، وبالذات عند القيادة السياسية والعسكرية، لا تخضع للحماس، أو الانفعال، أو الحسابات الخاطئة، أو القرارات المتهوّرة.
إيران التي تعاطت مع قوى الهيمنة وعقوباتها، وحصارها منذ إحدى وأربعين سنة وحتى اليوم، بقوة وصلابة وصبر ودهاء، واستطاعت أن تحبط محاولات أعدائها لاستدراجها إلى اتخاذ قرارات متسرّعة تنعكس سلباً بعد ذلك على وضعها الداخلي وأمنها القومي، وتتجنّب الكثير من الفخاخ بحنكة وذكاء لافت، لتخرج منها أكثر خبرة ومناعة وقوة.
هي لا تنتظر مطلقاً مَن ينظّر عنها، ويتكلم ويكتب عن خياراتها وتعاطيها وكيفية ردّها، وما الذي يجب أن تفعله أو لا تفعله، وما يتحتم على القيادة العسكرية الإيرانية أن تقوم به من عمليات حربية ردعية، وضربات مباشرة لأهداف استراتيجية حساسة في المنطقة.
كما أنّ إيران لا تؤخذ بحماس البعض من الذين يريدون منها ـ عن حسن نية أو سوء نية ـ بخفة وقصر نظر، رداً انفعالياً سريعاً غير محبوك ومسؤول، مهما كانت نتائجه وتداعياته، وهم يستعجلون بأيّ شكل من الأشكال، الاقتصاص الفوري من العدو، والقيام بضربات حاسمة لمواقعه في المنطقة.
ليس بهذا المنطق المتهوّر اللامبالي والاستخفاف بالنتائج والتداعيات تقاس الأمور، خاصة عندما نتكلم عن دولة إقليمية كبرى، لها وزنها الكبير وقراراتها المدروسة، تأخذ بالاعتبار حساباتها الدقيقة، وأيضاً حسابات أصدقائها وحلفائها، وردود فعل أعدائها، الذين هم في مواجهة مستمرة معها.
. طهران تقيس خطواتها وحساباتها بميزانها الحساس، إذ استطاعت على مدى سنوات ثورتها، أن تثبت جدارتها في هذا الشأن، مع التزامها الكامل بثوابتها ومبادئها ومواقفها الصلبة، وهي تمتصّ الأزمات التي تعترض طريقها وتتجاوزها، وتتغلب على التحديات التي تواجهها باستمرار، ما جعل خبراتها الغنية تراكم مع الأيام، لتصبح دولة مقتدرة قوية، لها حضورها ومكانها المتميّز في المنطقة والعالم.
إيران بغنى عن القرارات الحماسية الارتجالية المتسرّعة، وفذلكة وفلسفة البعض، وعن الإجراءات المتهوّرة، فمن يعرف عن قرب كيف تفكر وتخطط إيران، وكيف يعمل عقل قيادتها، ليدرك جيداً أنّ طهران تدرس خياراتها بنفس طويل وبمسؤولية عالية وبكلّ دقة، من دون أن تتراجع، تدرك تماماً ما لها، وما عليها ان تفعله. وتعرف متى تتقدّم وتضرب بقوة، من دون لين او ضعف أو خوف، وهي التي لا تسكت أو تنام على ضيم، حيث تتصرف بهدوء وحكمة ودراية وفق حساباتها المدروسة للغاية، فتختار الموقع المناسب للوصول الى الهدف السليم. لذلك تعرف القيادة السياسية والعسكرية الإيرانية، متى تردّ على المعتدين، وهي الأدرى بشعابها، من دون أن تنتظر من ينظِّر عنها ولها، أو من يقول لها ما الذي يجب أن تفعله وتقوم به، ليبدو الأمر وكأنها مقصّرة أو غائبة عن أرض الميدان، أو متهاونة في الردّ، أو متراخية في تعاطيها مع جريمة الاغتيال، وهذا غير مقبول، لأنه يسيء مباشرة إليها، ويشوّش على سياساتها ودورها وصدقيتها.
اتركوا إيران تتصرّف بهدوء وبروية وشجاعة، فلا خوف عليها ولا قلق على حلفائها، فلقد أثبتت وقائع الأحداث التي شهدتها إيران منذ تأسيس جمهوريتها، أنّ قيادتها السياسية والعسكرية في جهوزية كاملة في كلّ الأوقات، تتعاطى بحكمة وصبر وحنكة ودهاء في إدارة الملفات الساخنة، وتغتنم الفرص المناسبة والملائمة لاتخاذ قراراتها الوطنية الحاسمة، وتفعل فعلها، وتضرب ضربتها في المكان المناسب والزمان الذي تختاره وتحدّده.
اتركوا إيران تتصرّف بما تراه مناسباً، فإيران التي قرنت دائماً أقوالها بالأفعال، ولم تخذل شعبها وأمتها يوماً، ليست بحاجة إلى من يخطط وينظّر عنها ولها بأفكاره، يذهب بها بعيداً، من دون أن يأخذ بالاعتبار الضوابط، والمعايير التي تفرض نفسها على الأرض، حيث لا مجال لتجاهلها بتاتاً.
اتركوا إيران تتصرّف… فوعدها صادق له وقته ولا مفرّ منه.
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق