زفرة العربيّ الأخيرة
هنادي لوباني*
في تموز الماضي، أسقط متظاهرو «حياة السود مهمة» تماثيل كريستوفر كولومبوس في مدن أميركية عدة. سبقت هذه المظاهرات إزالة تمثال كولومبوس في كاراكاس وبيونس آيرس، في حين قامت جزر البهاما بإلغاء يوم اكتشاف أميركا وإعلان يوم الأبطال الوطني كبديل عنه، فيما تطالب برشلونة بتخليصها من تمثال كولومبس منذ القرن الثامن عشر، ويسعى برلمان كاتالونيا إلى تحطيمه أو ترحيله وإلغاء الاحتفال السنوي باكتشاف أميركا. الواضح أن تمثال كولومبوس بات يرمز لا فقط إلى مرحلة مفصليّة شهدت أوسع إبادة في تاريخ الجنس البشري، بل أيضاً إلى تمظهر الماضي وديمومته واستمراره في الحاضر جاعلاً من ذاكرة هذا الماضي مرجعية في تجربة الحاضر وفي صياغة استراتيجيات ومشاهد المقاومة.
في تشرين الأول 1492، قاد كريستوف كولومبوس سفنه لاستكشاف ما يُسمّى بالعالم الجديد بمباركة البابا ألكسندر السادس، الذي شرَّع دينياً الحقوق المزعومة للتاج الإسباني في احتلال القارة الأميركية، مما أدى إلى إباحة قتل الملايين من سكان المنطقة الأصليين في شمال أميركا وجزر البحر الكاريبي، وشحن الآلاف إلى إسبانيا حيث تم بيعهم كعبيد في إشبيلية. غزو ما يُسمّى بالعالم الجديد تزامن مع دخول الإسبان أسوار غرناطة في كانون الثاني 1492. في ذاك العام، دشنت محاكم التفتيش عملية تطهير ديني وثقافي وعرقي ضخمة راح ضحيتها ملايين الأندلسيين العرب والمسلمين. في ملحمة مجنون السا (1963)، ينوّه الشاعر الفرنسي لويس أراغون إلى هذا التزامن في مشهد تراجيدي يرسم سقوط غرناطة وآخر أيام العرب في الأندلس وقصص الحب والموت واليأس لحظة الفراق، في حين يدخل المفتشون وملوك إسبانيا الكاثوليك لاحتلال غرناطة، في موازاة تحرك سفن كولومبوس نحو المحيط الأطلسي وعالم سيعتبر جديداً بعد ذلك. وإذ يرسم لنا أراغون شعراً سقوط غرناطة كلحظة محوريّة في التاريخ الحديث، يغيب عنه أن التطهير الديني والثقافي والعرقي للعرب في إسبانيا هو الذي هيّأ أسس ممارسات الفتح المماثلة اللاحقة في القارة الأميركية.
هذا بالذات ما يلتقطه محمود درويش في قصيدته «أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي»، التي يسرح فيها بسعة وفيض الخيال اللغوي صعوداً وهبوطاً، دخولاً وخروجاً، حضوراً وغياباً، شكلاً وإشكالية، انكساراً وأملاً، بكاء وتحذيراً وبعثاً، ليكتب حوارية تناصية موسوعية تتداخل فيها الأزمنة والأمكنة والأحداث والتواريخ لتلتقي في تسليط مجهري على مشهد خروج أبو عبدالله الصغير، آخر ملوك غرناطة الذي سلم مفاتيح غرناطة لملكي إسبانيا فرناندو وإيزابيل بعد أن وقع في تشرين الثاني سنة 1491 معاهدة تسليم المدينة، وهو يراقب التفكك والسقوط، ومن حوله أعوانه الذين يستعدّون للغدر به، فيما الشعب منقسم شيعاً شيعاً. يأتينا صوت أبو عبد الله الصغير في المقطوعة الرابعة: «أنا واحد من ملوك النهاية… أقفز عن فرسي في الشتاء الأخير، أنا زفرة العربي الأخيرة». وزفرة العربي الأخيرة هي تل البدول، الذي وقف عليها ملك النهاية الأندلسيّة وأجهش بالبكاء، وغيّر اسمها الإسبان وأطلقوا عليها اسم «زفرة العربي الأخيرة (El ultimo suspiro del Moro). هنا ينطق ملك النهاية بلسان الحكاية القشتالية: يهرب الملك الصغير إلى المنفى خوفاً من الموت والحرق والسجن والتنصير الجبري، فيتنصر خطابه ويعمّد بلسانه حكاية المنتصر وفتحه المضاد، ليستحق أبو عبدالله بجدارة لقب «الملعون» عند العرب و«بو عبيدل» و«الملك الولد» للتصغير عند الإسبان؛ فالمنفى لا يوازي المقاومة في ماهيته بل في كيفيّته.
يستحضر أراغون مشهد الخروج من غرناطة في تصوير لمجنون السا، شاعر اسمه قيس ويلقب بالمجنون يجول في شوارع غرناطة ويتغنّى بحب امرأة اسمها «السا» ليجد نفسه مطروداً منها بعد ان احتلها ملوك اسبانيا الكاثوليكية، فيهرب إلى الجبال فاقداً كل أمل في استعادة عروبة غرناطة، ويبدأ بقراءة وغناء الأزمان المقبلة: زمن دون جوان الذي سيحوّل الحب الي هذيان، وزمن ناتالي دي نواي ولقائها مع شاتوبريان، والزمن الذي يشهد الحرب الأهلية الإسبانية وإعدام لوركا، وصولاً إلى زمن السا التي يحاول الشاعر استعادتها إلى الحياة عن طريق السحر فلا يفلح، فيموت الشاعر يائساً خارج أسوار غرناطة.
يستكمل لويس أراغون قصة نهاية الحضارة الإسلاميّة في شبه الجزيرة الأيبيرية بسفن كولومبوس التي تتحرّك في اتجاه العالم الجديد كعلامة على المستقبل المقبل والوصول إلى تفاؤل ممكن.
اما درويش فيبعثر زفرة العربي الأخيرة عبر الأزمنة والأمكنة ويصوغ من دموعها سيمفونية الكمنجات الحزينة ومن أنفاسها متتاليات تراجيدية تفيض بمشاعر الانكسار واليأس والتشاؤم، فتبحر بنا القصائد إلى الطرف الآخر من المحيط الاطلسي عند سكان المنطقة الأصليين في شمال أميركا، وفي عود إلى رؤيا يوسف، وأماماً إلى الذكرى الـ 500 للعام 1492 (سقوط غرناطة ورحلة كولومبوس)، وكشاهدة على اشتراك وفد منظمة التحرير الفلسطينية في عملية السلام وانعقاد مؤتمر مدريد في تشرين الأول 1991، ومرتحلة إلى زمن أريحا في أرض كنعان ومنها إلى ضفاف دجلة والفرات والحرب على العراق.
في إحدى عشرة قصيدة في ديوان أحد عشر كوكباً، يخضع درويش هذه المتتاليات لأكثر من قراءة ليكتب جدليّة فقد البشر والأرض، الكتب والأفكار، التواريخ والذاكرة، الحضور والغياب، الماضي والحاضر والمستقبل، ويكتب من خلالها «التاريخ المضاد لتاريخ الاستعمار في إبادة الشعوب ومحو الذاكرة، وتغيير هندسة الطبيعة والإنسان على يد سيّد الوقت والصخب المعدني، الذي يبشر بالحضارة باغتصاب براءة الطبيعة ونقاوتها، وتدمير المكان وسكانه الأصليين، في شمال أميركا وفلسطين والعراق، ويصطاد الأطفال والفراش». ورغماً عن أنف الغياب والتغييب وملوك التفاوض والاستسلام ومحاكم تفتيش الحاضر، التي تفرض السلام مقابل جبرية التصهين والتبرؤ من فلسطين ونفيها خارج الجسد والوعي والتاريخ والذاكرة والخطاب العربي سراً وجهراً، ينثر درويش أحد عشر كوكباً على هذا الزمن الرديء ليخلق من الحنين لبيته الرعوي في الجليل ومن الواقع الفلسطيني في الصمود والعناد بيوتاً وخيام شعر وعمود دخان يقوده كما شوق عوليس من سفره في المجهول ومنفاه وسط العواصف والأعاصير والحيتان والسيرينات والحوريات والآلهة إلى شواطئ إيثاكا.
ينقذ درويش القصيدة من العبثية والعدمية والكفر بالتاريخ نحو التأكيد على فعل الوجود والاستمرار والمضي، ودفع عجلة الذاكرة والحكاية والتاريخ نحو أمام يبني من حطام الحاضر والماضي جسراً بين أندلس فردوس الماضي المفقود و«أندلس الممكن» في فلسطين المكان/المستقبل. يسأل درويش ويجاوب:
وعما قليل سنبحث عما
كان تاريخنا حول تاريخكم في البلاد البعيدة
وسنسأل أنفسنا في النهاية: هل كانت الأندلس
ههنا أم هناك؟ على الأرض… أم في القصيدة؟
…
خمسمئة عام مضى وانقضى، والقطيعة لم تكتمل
بيننا، ها هنا، والرسائل لم تنقطع بيننا، والحروب
لم تغيّر حدائق غرناطتي.
هذه المتتاليات التناصية ليست عشوائية؛ ففي 19 أيار 1506، صادق كولومبوس على وصيّته التي نص فيها على إنشاء صندوق لغرض تحرير القدس، في دليل على محورية القدس في حملة كولومبس، التي هي حلم حرب صليبية متجدّدة كانت بداياتها في القرن الحادي عشر، أي ما قبل سقوط غرناطة، واستمرت لمدة ثلاثة قرون في ثماني حملات صليبية ابتداء من الحملة الأولى عام 1096 حتى الحملة الثامنة علم 1270، وعادت عبر الامتيازات في القرن السادس عشر، وحملة نابليون إلى مصر في نهاية القرن الثامن عشر، وتأسيس الكيان الصهيوني الذي لا يفرق عن الكيان الصليبي الذي أقامه الصليبيون عند قدومهم في نهاية القرن الحادي عشر وتأسيس مملكة بيت المقدس بعد احتلالها وذبح أهلها، وتعدّدت أشكال عودتها في الحاضر بغزو أفغانستان والعراق وليبيا وتدمير سورية واليمن والصومال. وفي أواخر عام 1991، انعقد مؤتمر مدريد للسلام في مناسبة مرور خمسمئة عام على طرد العرب من الأندلس واكتشاف العالم الجديد. في افتتاحية المؤتمر، ابتدأ شامير كلمته بقوله: «خلال ألفي عام من الترحال حطّ الشعب اليهودي هنا لمئات السنين حتى طرد قبل خمسمئة عام… وفي إسبانيا عبر الشاعر والفيلسوف الكبير يهودا هاليفي عن شوق جميع اليهود إلى صهيون بقوله: «إن قلبي في الشرق وأنا في أقصى الغرب». أما نحن، فقد كان «كل شيء معدّ لنا»: بصمنا أن «للحقيقة وجهين»، وسلمنا «مفاتيح فردوسنا لوزير السلام» في سلام الصفقات والصفعات، وأقمنا عرش سلطة «تخشى الشهادة» وترفض أن تحمل نعشها رغم احتضارها في حضيض فظيع، وما زالت تنتظر عرض التفاوض وطول التفاوض.
وها نحن ذا يوسف العرب، ينقض الماضي على حاضرٍ على حافة بئر السقوط أو الاستسلام وكيد الإخوة من البحرين إلى السودان وبو عبيدل يطبع ليلحقه الملك الولد بلا حياء، نصرخ بوجه قيادات أثخنها الانقسام وسلام التنسيق الأمني وأثخنتنا بالفساد والاستبداد وضياع البوصلة والأرض:
لم نعد قادرين على اليأس أكثر مِما يئسنا، والنهاية تَمشي إلى
السور واثقة مِن خطاها
فوق الْبلاط الْمبلل بالدمع، واثقة من خطاها
مَن سيُنزل أعلامنا: نحن، أم هم؟ ومن
سوف يتلو علينا ((معاهدة الصلح))، يا ملك الاحتضار؟
كُل شيء معدّ لنا سلفاً، مَن سينزع أسماءنا
عن هويتنا: أنت أم هم؟
…
مَن سيدفن أيامنا بعدنا: أنت… أم هم؟ ومن
سوف يرفع راياتهم فوق أسوارنا: أنت… أم
فارس يائس؟ مَن يعلّق أجراسهم فوق رحلتنا
أنت…أم حارس بائس؟ كل شيء معدٌّ لنا
فلماذا تطيل التفاوض، يا ملك الاحتضار؟
* هنادي لوباني، باحثة وكاتبة فلسطينية