لا خير في منظومة شربت مياه النفاق
} علي بدر الدين
يقول الكاتب المصري يوسف السباعي: كنت أتمشى على ضفاف النيل، ووجدت دكاناً، فوق بابه لوحة مكتوب عليها، تاجر أخلاق، بالجملة والمفرّق، فقادني فضولي للدخول إليه، فإذا بي أجد أكياساً، في صف منتظم، كتب على بعضها، صدق، كذب، مروءة، شجاعة، نفاق، فقرّرت شراء بضع غرامات، شجاعة، وشربتها مع كوب من الماء، وعدت أدراجي إلى البيت، فطردت «حماتي» التي كانت تقيم معنا، ثم طلقت زوجتي، لأنها غضبت على طرد والدتها، وطردت الأولاد لاعتراضهم على ما فعلت بوالدتهم وجدّتهم، وبقيت وحدي في البيت، في اليوم الثاني صحوت متأخراً، ومن دون عجلة، ذهبت إلى وظيفتي، وسألني زميلي في العمل، لماذا تأخرت، المدير يسأل عنك، دخلت على المدير في مكتبه وضربته، وطردني من الوظيفة. عدت إلى البيت، وقد فقدت عملي، وزوجتي وأولادي، وأنا في حيرة من أمري، لا أدري ما يجب فعله، لإعادة الوضع إلى طبيعته، والخروج من الأزمة التي وضعت نفسي فيها. ثم أخذت قراري بالعودة إلى الدكان، واشتريت القليل من النفاق، ولم يمض وقت، إلا والعائلة مجتمعة، ثم عدت إلى الوظيفة، جدير بالثقة، بعدها قصدت الدكان ذاته، واشتريت منه «شوال» النفاق، وحملته إلى جسر النيل ورميته في النهر، وصادف، اجتماع لجامعة الدول العربية، فشربت منه الأمة كلها. ومنها لبنان الذي يذكر من كتب تاريخه، أنه ساهم في تأسيس الجامعة العربية، وهو بطبيعة الحال ممثل فيها.
لا غرابة إذن إنْ حكمته طبقة سياسية منافقة منذ أكثر من ثلاثة عقود، لم تصدق مع شعبها مرة واحدة، ولم تنفذ وعداً تعهّدت به، لا في السياسة، ولا في الاقتصاد، ولا في الإنماء المتوازن، ولا في الحفاظ على المال العام والخاص، ولا في حماية الدولة ومؤسساتها، ولا في العدالة والاحتكام إلى القانون، ولا في اختيار الموظفين الكفوئين ولا في النواب ولا في الوزراء، ولا في محاربة الفساد واجتثاثه من جذوره، ولا في كشف الفاسدين والسارقين والمتسلطين والجشعين، ولا في تقويض أسس السمسرات والصفقات والنهب المنظم والمبرمج لمقدرات الدولة وثروات الشعب، ولا حققت الإصلاح الحقيقي المنشود، ولا أعادت الأموال المنهوبة والمهرّبة، ولا حقوق اللبنانيين، ولا نفذت وعودها في اعتماد قانون انتخابي جديد وطني وتمثيلي وعادل، ولا في إنشاء بنى تحتية وإنمائية وبيئية، تحول دون إغراق البلد بالمياه والنفايات والتلوث، ولا نفذت ما وعدت به لتحسين وتطوير الكهرباء رغم أنها هدرت ونهبت الكثير الكثير، فيما لبنان يغرق في العتمة، ولا أهّلت الطرق التي تحوّلت إلى طرق للموت اليومي.
حبل نفاقها يطول ويزرع المزيد من الأزمات والكوارث، التي لا تعد ولا تحصى، وآخرها كارثة انفجار المرفأ، التي لا تزال مفاعيلها وتداعياتها وارتداداتها تحصد البشر والحجر، ولم تصدق بوعدها انها في أيام أو أسابيع، ستفرج عن التحقيق في هذا الانفجار المروع، الذي قتل وأصاب ودمّر وشرّد وهجّر، وهي التي عرقلت، لخلاف على المصالح، وحتى لا ينكشف مستور فسادها وتورّطها، التدقيق الجنائي، ولا أعادت أموال المودعين في المصارف.
وما فعلته، أنها تفاقم خلافاتها الوهمية، حول ما تبقى من احتياطي في المصرف المركزي، ورفع الدعم عن السلع الضرورية التي تعني الشعب مباشرة بهدف «تزليطه»، من كلّ شيء، ومن كلّ حق له، ورميه في أحضان الفقر والجوع والبطالة والمرض.
ولا تزال ممعنة في نفاقها، رغم أنها ترى أنّ البلد يتهاوى والشعب يغرق في المجهول البائس واليائس والقاتل، وأنه فقد الأمل من أنها جديرة بإدارة شؤون البلاد والعباد، ولا رجاء منها، لأنها «صلّدت» وأفلست سياسياً و «انقطع حيلها» بعد كلّ ما ارتكبته واقترفته بحق الوطن والشعب والمؤسسات، والثروات العامة والخاصة، ولم يبق أمامها، سوى احتياطي الذهب، لم تطله أياديها المغمسة بكلّ الرذائل، لتقضي على الدولة المترهّلة، التي تحوّلت إلى «ايدي سبأ» والى إقطاعيات وممتلكات خاصة.
هي الآن في مرحلة «الصعود إلى الهاوية» ولكن بعد «خراب البصرة» وبيروت وكلّ لبنان، وقد بان عجزها عن تأليف حكومة، وربما هي لا تريدها أن تتألف لأنها ستكون تحت مجهر المجتمع الدولي، والشعب، والبيئات الحاضنة، وخاصة أنها لن تؤلف إلا على قاعدة إصلاحية حقيقية، إنقاذية، وهذا يعني أنها ستفضح ماضيها وحاضرها وفسادها وتحاصصها وصفقاتها، وحجم الأموال المنهوبة المنقولة وغير المنقولة التي سطت عليها وراكمتها في مصارف الداخل والخارج، وفي خزائنها أو المسجلة بأسماء الزوجات والأبناء.
كلّ ما هي قادرة عليه أنها تتبرّع بالمزيد من الوعود الجوفاء، والنفاق الذي تحوّل إلى نهج يرسم خططها وبرامجها لحماية مصالحها وامتيازاتها وثرواتها المتراكمة، وكيفية الهروب من المسؤولية والمساءلة والمحاسبة الآتية ولو بعد حين. إنها تشتري الوقت إلى أبعد مدى، علها تنجو بجلدها، ويحرّرها من خوفها وقلقها على ما جمعته عنوة وبالتشبيح والنفوذ والتسلط، وانتظار حصول تطورات على مستوى الإقليم والعالم، قد يتيح لها النفاذ بريشها. وتحاول الهاء اللبنانيين بزيارة الرئيس المكلف إلى قصر بعبدا، وإعطاء وعود كاذبة من جوقة النفاق، أنه حان موعد التأليف، وبارقة الأمل ستصعد الدخان الأبيض أخيراً، ولكن ماذا تبدّل او تغيّر حتى تؤلَّف الحكومة؟ هل زالت المعوقات بسحر ساحر؟ وهل توافقت، القوى السياسية والطائفية على حجم الحكومة والحقائب والأسماء؟ ام وحي نزل فجأة عليها لتغيير نهجها في الكذب والنفاق؟ أكيد لا هذا ولا ذاك، نكرّرها أن لا حكومة، قبل أشهر، وما يحصل ليس سوى عملية خداع جديدة، ربما استباقاً لزيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الثالثة الموعودة إلى لبنان، الذي حكماً لن تأتي بجديد، ولن يكون حاملاً معه الخلطة السحرية للحلّ والتأليف، وقد ينطبق على زيارته مقولة «تيتي تيتي متل ما جيتي رحتي»، لأنّ القضية أكبر من زيارة أو تأليف حكومة، بل تتعداها إلى الصراع الدولي الإقليمي، وتقاطع أو تعارض المصالح والنفوذ، والسعي الأميركي الصهيوني للضغط على لبنان ومواصلة حصاره وفرض المزيد من العقوبات عليه. قالها مرة جيفري فيلتمان السيّئ الذكر، لا خيار أمام لبنان بين الانهيار وتجويع الشعب، أو الخضوع للقرارات الأميركية.
لا خير في منظومة سياسية، شربت من مياه النفاق حتى ارتوت، لا يمكنها الخلاص منه، لأنه بات كالدم الذي يسري في شرايينها.