رسائل أوروبيّة إلى إيران بأسلوب ترامب
} د.وفيق إبراهيم
خسر الرئيس الأميركي دونالد ترامب الانتخابات الرئاسية الحالية، لكن القوى الاساسية في أوروبا لا تزال تلتزم بتطبيق حرفي لأسلوبه، فتطلق صراخاً وضجيجاً للتمسك بشروطه في أي تجديد للاتفاق النووي مع إيران.
للتذكير فإن الرئيس الأميركي السابق أوباما وقع على اتفاق الخمسة الكبار زائداً واحداً معها، لكن ترامب انسحب منه في 2018 بذريعة انه لا يلبي استراتيجية إلغاء الخطر الإيراني من الشرق الأوسط كما زعم.
إلا ان الاعضاء الأوروبيين الثلاثة فرنسا وانجلترا والمانيا لم ينسحبوا منه، محافظين على علاقة سطحية مع إيران انما على قاعدة الالتزام العميق بتطبيق العقوبات الأميركية عليها، ورفضهم إمدادها بما تحتاجه حتى من الادوية والغذاء، لقد كان هؤلاء الأوروبيون يطمحون بهذه السياسات الهزلية الى ابقاء خطوط لعلاقات قابلة للتطور في مراحل لاحقة مع إيران الاقتصادية والمتمكنة، إنما مع عدم تجاوز ارتباطهم الجيوبولتيكي بالأميركيين. فالقارة العجوز ترتمي في احضان السياسة الأميركية منذ 1945 مع محاولات خجولة للتمرد في بعض الأحيان لم تتمكن من النجاح.
الحقيقة أن الفشل الانتخابي لترامب فاجأ الجميع بما فيهم أوروبا التي ابتهجت به وبدأت برسم خطة لمواكبة بايدن في حركة إعادة تجديد الامبراطورية الأميركية، خصوصاً بعدما رفع شعاره بأن «أميركا تعود لقيادة العالم» مقابل شعار ترامب بأن «أميركا أولاً»، وكاد أن يقول «وأخيراً» لكن حاشيته ردعته عن ذلك لأنه كان يطبقه بالفعل في سياساته الانتقاميّة والعقابية التي لم تكن تفرّق بين منافس وصديق.
اما التوجه الآخر الذي درسه الثلاثي الأوروبي بعمق ورد في مقابلة أجراها بايدن مع صحيفة «النيويورك تايمز» ركز فيها على مشروعه التفاوضي المرتقب مع إيران حول الاتفاق النووي مؤكداً على ضرورة إلغاء كل تقدم نووي يصلها بإنتاج القنبلة النووية، وربما تمكنت من إدراكه بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي في مرحلة ترامب.
لم يكتف بايدن بهذا القدر، بل طاول كعادة الأميركيين صواريخ إيران الدقيقة ونفوذها السياسي في الشرق الاوسط كما وصفه، إلا ان الأوروبيين لم يكتفوا بهذا القدر من المعلومات، فقرأوا بتمعن أبعاد نشوء الحلف السعودي ـ الخليجي ـ الاسرائيلي وتمحوره حول الموضوع الإيراني بشكل أساسي مع بعض الاهتمامات الاقتصاديّة والأمنية الثنائية.
هذا الحلف لا يريد عملياً أي تقارب إيراني ـ أميركي.. بما يدفعه لافتعال إشكالات يتهمون بها إيران في كل شيء تقريباً على مثال النووي والصواريخ وميليشياتها المنشورة في الشرق الأوسط وقمعها للإيرانيين في الداخل. لم يدخروا تهمة إلا ألصقوها بإيران، وذلك لمحاولة عرقلة مفاوضاتها المرتقبة مع الأميركيين.
هنا استشعر الأوروبيون وجود فرصة قد تعيدهم الى إيران والمقصود هنا إيران الاقتصادية المتمكنة والتي تمتلك تحالفات في اليمن وغزة والعراق وسورية ولبنان، فتأتي ثرواتها الداخلية لتخدم تبادلات اقتصادية هامة مع أوروبا، الى جانب إعادة إعمار وتجديد لها ولحلفائها في الشرق الاوسط. فاليمن مدمّر ومنهك وكذلك سورية والعراق وغزة، وهذه مراكز متحالفة مع طهران وتستطيع ان تنسج علاقات متقدمة مع الأوروبيين إذا نجحوا بكسب ثقة الإيرانيين في المنطلق.
هنا اعتبر الفرنسيون والالمان والانجليز أن ما يحول دون عودتهم الى إيران هم الأميركيون أولاً الذين يريدون التفرد بالمفاوضات تمهيداً لاحتكار العلاقات الاقتصادية المرتقبة.
كما رأى هؤلاء ان المحور الخليجي ـ الاسرائيلي لن يقبل بعودة أوروبية الى إيران خارج الخطة الأميركية.
هذا ما دفع بالعبقرية الأوروبية الى إصدار بيان قرأه وزير خارجية المانيا، معلناً فيه بلسان أوروبي، ان المطلوب تجديد آليات لمراقبة دقيقة للبرنامج النووي الإيراني، معلناً عن اصرار أوروبي على وقف البرنامج الإيراني لإنتاج الصواريخ الدقيقة، وذاهباً نحو ضرورة تفكيك النفوذ السياسي الإيراني في الإقليم.
فبدا هذا البيان متناقضاً مع بقاء الأوروبيين في عضوية الاتفاق النووي بعد الانسحاب الأميركي منه في 2017 بما يكشف مدى النفاق الأوروبي، والهاجس الاقتصادي الذي يتحكم بدول القارة العجوز.
فالاتفاق النووي يكشف من اسمه أنه محصور بـ «النووي» فما علاقته بالسياسة والصواريخ؟ وكيف يمكن للأميركيين والأوروبيين اعتبار أنصار الله في اليمن وحزب الله في لبنان والدولة في سورية ومنظمات فلسطينية في غزة والحشد الشعبي في العراق، مجرد أذرع إيرانية او ميليشيات لها؟
هؤلاء هم قوى عربية ووطنية في بلدانها، دخلت في مشاريع للتصدي للإرهاب و»اسرائيل» والقمع السعودي ـ الإماراتي لبلدانها ومقاومة التسلط الأميركي، فدعمتها إيران التي لا تزال تتعرض حتى اليوم لحصار أميركي ـ خليجي ـ اسرائيلي وأوروبي أيضاً، فكيف يمكن للأوروبيين تصوير هذه العلاقات الإيرانية مع خمس قوى عربية على انها مجرد نفوذ.
فالمفهوم الإيراني لهذا التعاون هو تطبيق لمبدئية إيرانية تؤمن بأن تحرير الشرق الاوسط من الكابوس الأميركي والتخلف الداخلي، غير ممكن، إلا بالتخلص من الضغط الأميركي الذي يعمل على ابقاء هذه المنطقة في القرون الوسطى.
اما الدليل على صدقية هذا التحليل، فهو هذا الاستهداف الأميركي ـ الخليجي ـ الاسرائيلي والأوروبي الذي يضغط لإبقاء كامل الشرق الاوسط باستثناء «اسرائيل» في دائرة التخلف والقبلية والطائفية.
هنا يحق للمراقبين ان يسألوا اذا كانت إيران استفادت اقتصادياً كحال الأميركيين والأوروبيين من علاقاتها بتحالفاتها في المنطقة.
بذلك يتضح ان هذا التصعيد الأوروبي تجاه إيران هو محاولة للالتحاق ببايدن في رحلته نحو التفاوض مع الجمهورية الاسلامية، لأنهم يعلمون مسبقاً ان الكلام عن شروط خاصة بالصواريخ الدقيقة والنووي ليس إلا ثرثرة يستعينون بها للتضييق على إيران في تحالفاتها السياسية لأنهم يخشون على انظمتهم الخليجية من خطر الانهيار ولا يريدون انتاج قوى محلية تستطيع مجابهة «اسرائيل».
هذه هي إيران التي تحارب تحالفاً كبيراً يستهدفها متشكلاً من الارهاب والتحالف الخليجي ـ الإسرائيلي والاحتلال الأميركي للمنطقة، فهل تلتحق به أوروبا ام تنفتح على إيران؟