آبي أحمد: طموح سياسي إصلاحي أم حلم الإمبراطورية الأثيوبية؟
} د. علي سيّد
أثيوبيا هي البلد الوحيد الذي لم تستعمره قوة أوروبية طوال حقبة الاستعمار، وصاحبة التاريخ الطويل، والإرث الديني العريق، بدءاً من اليهودية التي انتشرت في مرتفعات إثيوبيا ولا تزال حية عبر تجمّعات صغيرة، ومن تاريخها المعروف في استقبال المهاجرين المسلمين الأوائل حين خرجوا من مكة، وحتى كنيسة المسيحيين الأرثوذكس العريقة التي ينتمى إليها أغلب سكانها اليوم، إنها إثيوبيا، التي عانت طويلاً من الفقر والصراعات الداخلية التي نالت من حوالي مليون من سكانها حتى نجحت الجبهة الشعبية الديمقراطية الثورية الإثيوبية (حزب الجبهة اختصاراً) في الوصول إلى السلطة عام 1991، لتضع البلاد على خارطة النمو الاقتصادي خلال العقد الماضي.
عقب تولي هايلي ماريام ديسالين للسلطة بدأت مجموعات عرقية، وعلى رأسها الأورومو (المجموعة العرقية التي تمثل حوالي 40% من سكان البلاد) التململ من طريقة تقاسم السلطة في الإطار المركزي.
ومثلت حادثة منح الحكومة المركزية لبعض من أراضي الأورومو (جنوب العاصمة أديس أبابا) لمستثمرين، الشرارة التي أطلقت احتجاجات شعبية ظلت تخمد وتصعد خلال الأعوام من 2015 حتى 2017، الأمر الذي أجبر ديسالين على الاستقالة، وبدأت التحالفات تنسج لدعم المرشحين داخل المجلس المركزي للتحالف، والمنوط به اختيار رئيس الوزراء، فاجأت جبهة تحرير الأورومو الجميع بأنها استبدلت رئيسها (لما مغرسا) بالعقيد السابق في استخبارات الجيش آبي أحمد، والذي حصل على دعم الأمهرة (من خلال تفاهمات من وراء الستار مع الأميركيين) رغم معارضة التيغراي، وتصويت ممثليهم في المجلس ضدّ أحمد.
إسمه آبي أحمد علي (مواليد 15 آب عام 1976) هو رئيس الوزراء في جمهورية إثيوبيا عين في 27 آذار 2018، وهو أول رئيس وزراء من عرقية أورومو، نال جائزة نوبل للسلام عام 2019 لجهوده في حلّ النزاع الحدودي مع إريتريا.
ولد آبي أحمد في أغارو بمدينة جيما بإقليم الأورومو. التحق بالجبهة الديمقراطية لشعب الأورومو، وشارك في الصراع المسلح عام 1990 ضدّ حكم نظام منغستو هيلا مريام، وبعد سقوط النظام سنة 1991 التحق رسمياً بالجيش الإثيوبي، ثم انضمّ إلى وحدة المخابرات والاتصالات العسكرية، وتدرّج بها حتى وصل لرتبة عقيد عام 2007.
غادر المخابرات في 2010، وبدأ بالعمل السياسي كعضو في الجبهة الديمقراطية لشعب أورومو، وانتُخب عضواً بالبرلمان الإثيوبي في 2010، وأُعيد انتخابه في 2015، وأصبح عضواً في اللجنة التنفيذية لـ «الجبهة الديمقراطية لشعب أورومو»، ثم أصبح وزيراً للعلوم والتكنولوجيا بالحكومة الفيدرالية من 2016 إلى 2017، وأصبح مسؤولاً عن مكتب التنمية والتخطيط العمراني بإقليم أوروميا ثم نائب رئيس إقليم أوروميا نهاية 2016.
اختار ائتلاف الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية آبي أحمد رئيساً للائتلاف مما يجعله رئيساً للوزراء بشكل تلقائي خلفاً لرئيس الوزراء السابق هايلي مريام ديسالين، الذي أعلن استقالته بعد اندلاع أعمال عنف واحتجاجات مناهضة للحكومة بسبب نزاع بين مواطنين غالبيتهم من عرقية أورومو والحكومة حول ملكية بعض الأراضي، ولكن رقعة المظاهرات اتسعت لتشمل المطالبة بالحقوق السياسية وحقوق الإنسان، وأدّت لمقتل المئات واعتقال الآلاف.
آبي أحمد والده مسلم من عرقية أورومو، وأمه مسيحية من عرقية أمهرة، ومتزوج من مسيحية أمهرية. وهو مسيحي من الطائفة البروتوستانتية الخمسينية. يحرص آبي على حضور صلاة الأحد في الكنيسة مع أسرته، زوجته تنتمي إلى نفس الطائفة وهي متدينة وهي عضو في جوقة الكنيسة.
قام آبي بسرعة بإصلاحات سياسية واقتصادية حقيقية ووسع الحريات، بدءاً من تغيير رئيس الأركان ومدير جهاز الأمن والمخابرات الوطنية، في تعديلات هي الأولى منذ 18 عاماً، وأسند للمرأة نصف حقائب الحكومة وعين عائشة محمد موسى كأول سيدة لحقيبة الدفاع في تاريخ البلاد، كما قدّم لاحقاً السفيرة السابقة سهلى ورق زودي كأول رئيسة للبلاد، كما قام بدمج بعض الوزارات وأنشأ أخرى، وأطلق سراح المعتقلين والسجناء المعارضين، وأسقط وصف الإرهاب عن حركات معارضة مسلحة ورحب بعودة قياداتها من المنفى، واعترف بالانتهاكات التي وقعت في الماضي، كما أجرى مصالحات بين القوميات والشعوب في الأقاليم المختلفة في اثيوبيا، ونجح في استعادة الودّ مع اريتيريا، بعد قطيعة عقدين في «إعلان المصالحة والصداقة» تمّ بموجبه إنهاء أطول عداء في أفريقيا وفتح السفارات في البلدين وتطوير الموانئ واستئناف رحلات الطيران.
وضمن الإصلاحات الداخلية، في 12 تشرين الثاني 2019، أوقف 63 من كبار المسؤولين في جهاز الأمن والمخابرات بينهم 27 جنرالاً بالجيش، للاشتباه في ارتكابهم «انتهاكات» لحقوق الإنسان ووقائع فساد والضلوع في «محاولة اغتيال» رئيس الوزراء الإثيوبي.
تعرّض لمحاولة اغتيال بقنبلة يدوية لم تنفجر خلال مشاركته في تجمع شعبي مؤيد له، كما قام نحو 250 من أفراد القوات الخاصة بالجيش الإثيوبي كانوا في مهمات مختلفة بأديس أبابا في 10 تشرين الأول 2018، باقتحام مكتب آبي أحمد، حاملين الأسلحة، للتعبير عن شكواهم المتعلقة بالأجور وعرض مطالب أخرى، لكن رئيس الوزراء الإثيوبي وصفها بأنها كانت محاولة خطيرة استهدفت إجهاض التغيير الذي تشهده البلاد.
جيبوتي واتفاقيات الموانئ
منذ تولي السلطة، اتبع آبي أحمد سياسة توسيع نطاق وصول إثيوبيا – وهي دولة غير ساحلية – إلى الموانئ في منطقة القرن الأفريقي. قبل وقت قصير من توليه منصبه أُعلن أنّ الحكومة الإثيوبية ستستحوذ على حصة 19% في ميناء بربرة في جمهورية صوماليلاند غير المعترف بها كجزء من مشروع مشترك مع موانئ دبي العالمية. في أيار 2018، وقعت إثيوبيا على اتفاقية مع حكومة جيبوتي لأخذ حصة في ميناء جيبوتي، لتمكين إثيوبيا من أن يكون لها رأي في تطوير الميناء وتحديد الرسوم.
وبعد ذلك بيومين تمّ توقيع اتفاقية مماثلة مع الحكومة السودانية تمنح إثيوبيا حصة ملكية في ميناء بورتسودان. يمنح الاتفاق الإثيوبي الجيبوتي الحكومة الجيبوتية خيار الحصول على حصص في الشركات الإثيوبية المملوكة للدولة في المقابل، مثل الخطوط الجوية الإثيوبية وإثيو تيليكوم. وأعقب ذلك بوقت قصير الإعلان أن آبي أحمد والرئيس الكيني أوهورو كينياتا قد توصلاً إلى اتفاق لبناء مرفق لوجستي إثيوبي في ميناء لامو.
وبالمثل، فإنّ التطبيع المحتمل للعلاقات بين إثيوبيا وإريتريا يفتح إمكانية لإثيوبيا لاستئناف استخدام مينائي مصوع وعصب، اللذين كانا قبل النزاع الإثيوبي – الإريتري موانئها الرئيسية، والتي ستكون ذات فائدة خاصة لإقليم تكرينيا الشمالي. كلّ هذه التطورات ستقلّل من الاعتماد الإثيوبي على ميناء جيبوتي الذي تحكّم منذ عام 1998 في كامل حركة الملاحة البحرية في إثيوبيا تقريباً.
الصلح مع إريتريا
عند توليه المنصب، أعلن آبي أحمد عن استعداده للتفاوض على إنهاء الصراع الإثيوبي الإريتري. في حزبران 2018، أُعلن أنّ الحكومة وافقت على تسليم بلدة بادمي الحدودية المتنازع عليها إلى إريتريا، وبالتالي الامتثال لشروط اتفاق الجزائر لعام 2000 لوضع حدّ لحالة التوتر بين إريتريا وإثيوبيا التي استمرت على الرغم من انتهاء الأعمال العدائية خلال الحرب بين إثيوبيا وإريتريا. كانت إثيوبيا قد رفضت حتى ذلك الحين قرار لجنة الحدود الدولية بمنح بادمي لإريتريا، مما أدّى إلى صراع مجمّد (وصف شعبياً بسياسة «لا حرب، ولا سلام») بين الدولتين.
خلال الاحتفال الوطني في 20 حزبران 2018، قَبِل رئيس إريتريا، أسياس أفورقي، مبادرة السلام التي قدّمها آبي أحمد واقترح أن يرسل وفداً إلى أديس أبابا. في 26 حزيران 2018، زار وزير الخارجية الإريتري عثمان صالح محمد أديس أبابا في أول وفد إريتري رفيع المستوى إلى إثيوبيا منذ أكثر من عقدين.
في أسمرة، في 8 تموز 2018، أصبح آبي أحمد أول زعيم إثيوبي يلتقي مع نظيره الإريتري منذ أكثر من عقدين، في القمة الإثيوبية الإريترية 2018 . في اليوم التالي، وقع الإثنان على «إعلان مشترك للسلام والصداقة» يعلنان فيه إنهاء التوترات والموافقة على إعادة العلاقات الدبلوماسية وإعادة فتح وصلات الاتصالات المباشرة والطرق والطيران وتسهيل الاستخدام الإثيوبي لمينائي مصوع وعصب. حصل آبي أحمد على جائزة نوبل للسلام في عام 2019 لجهوده في إنهاء الحرب.
أزمة إقليم تيغراي
إنّ جوهر الصراع الحالي بين الحكومة المركزية الإثيوبية بقيادة آبي أحمد وجبهة تحرير شعب تيغراي هو إعادة النظر في مفهوم الهوية السياسية الإثيوبية والتنافس على الهيمنة السياسية.
يرغب آبي أحمد – الذي يُمثِّل ثقافة هجينة من الأمهرة والأورومو – أن يقيم تحالفاً حاكماً جديداً مع الأمهرة للتخلّص من بنية السلطة العتيدة في منطقة التيغراي.
إنه يحاول بناء أُسس جديدة للشرعية السياسية تُعزّز سلطته، وتقوّي مركز أنصاره الجدد في أمهرة. يتّضح ذلك جليّاً من اتخاذه الخطوات التالية، والتي أفضت في نهاية المطاف إلى إشعال نيران الحرب الأهلية شمال البلاد:
أولاً: طرح فلسفة إحياء مفهوم الإثيوبيانية وهو ما يعارض تماماً مفهوم الفيدرالية العِرقِيَة التي ينص عليها الدستور الحالي.
وبالفعل استطاع أن يجمع حوله الكثير من النشطاء والسياسيين، أغلبهم من الأمهرة، وتعيينهم في مناصب حكومية. لقد حاول أيضاً بشكل حماسي وعاطفي الجمع بين الهويات العرقية من خلال أسلوب بوتقة الصهر المتخيَّلة، ولكن دون معالجة المظالم والتناقضات الجماعية القائمة منذ زمن طويل. وتشمل هذه المظالم عدم المساواة في الوصول إلى السلطة السياسية والموارد الاقتصادية، وكذلك الحرمان من الحق في تقرير المصير.
ثانياً: تشكيل حزب الازدهار كأداة لتكريس السلطة السياسية تحت قيادته. ولعلّ ذلك يعيد إلى الأذهان نظام المركزية التسلطية التي كانت سائدة في العهد الإمبراطوري (منليك وهيلا سلاسي)، وطوال سنوات الحكم العسكري تحت قيادة مانغستو هيلي مريام.
ثالثاً: التخلص من بنية دولة التيغراي من خلال تفكيك مراكز السلطة لديهم، ومن خلال عزلهم من الحكومة المركزية والمناصب السياسية المهمة، بل والزجّ بكثير من قياداتهم في السجون بتُهَم الفساد.
رابعاً: التخلّص من أكبر منافسيه داخل إقليم أوروميا، من خلال قمع وتفكيك جبهة تحرير أورومو ومؤتمر أورومو الفيدرالي، أكثر الأحزاب شعبيةً وتأثيراً في الإقليم. كما أنه ألقى القبض على أقوى زعيم للمعارضة: جوهر محمد.
وعليه، فإنّ الهدف الخفي غير المعلَن للحرب في التيغراي هو استبدال قيادة تيغراي بحكومة تابعة للدولة المركزية.
الشخصية السياسية الملتبسة
من الواضح أنّ آبي أحمد هو رجل «شعبوي ليبرالي»، يشبه إلى حدّ ما دونالد ترامب وفلاديمير بوتين، فهو من الشعبويين الذين «يستخدمون النداءات الجينغوية للقومية لإقتلاع أو إيقاف النقاش السياسي المحلي والعمليات المؤسسية». وبوصف آخر فهو «شعبوي انتهازي يسعى من أجل السلطة على منصة الديمقرطية»، يستخدم أحياناً لغة يمكن قراءتها على أنها تسميلية ومتمحورة حول المؤامرات، وربما يكون قد استغلّ نقاط ضعف النظام، مثل وسائل الإعلام الطَيِّعة والقضاء المُسَيَّس، لأغراضه الخاصة.
آبي أحمد يستعجل حلم الإمبراطورية
تنذر المعارك المندلعة في إقليم التيغراي، وامتدادها إلى خارج حدود البلاد، بأزمة كبرى في القرن الأفريقي. أزمةٌ يُحمّل الخبراء آبي أحمد المسؤولية الأولى عنها، جرّاء مجازفته بأمن دولته واستقرارها من أجل وهم لا يفتأ يُسوّقه، عنوانه: «الإثيوبيانية». يأتي ذلك في ظلّ تجاهل غربي لما يقوم به الرجل، على رغم الهالة التي كان حظي بها بوصفه «رجل السلام» في هذه المنطقة من القارّة السمراء.
لقد تَبدّدت صورة آبي أحمد كرجل سلام ورجل دولة، وانكشفت مقولات «الإثيوبيانية» بفضل الحشد الإثني للأمهرة في حملته العسكرية على إقليم تيغراي، وتداعي احترافية الجيش الإثيوبي على وقع الانتماءات الإثنية، في أول اختبار حقيقي له منذ تولّيه قيادة البلاد في نيسان 2018. وفيما يشهد القرن الأفريقي بأكمله احتمالات أزمة كارثية، فإنّ صورة آبي أحمد ووضعه إثيوبياً – ثاني أكبر دول القارة الأفريقية سكاناً ومن أهمّها تأثيراً – في عين العاصفة لم يحظيا بعد بالإهتمام الدولي الذي كان متوقعاً في مثل هذه الحالات، إمّا على وقع إتاحة الفرصة له لاستكمال التحوّل الديمقراطي، أو منحه تفويضاً مسبقاً بالصوابية السياسية وصكّاً باستكماله مشروع «الإثيوبيانية» الخارج من رحم أفكار العصور الوسطى الإثيوبية.
بين طموح آبي أحمد السياسي المغلّف بأفكاره الإصلاحية وحلم إعادة الإمبراطورية الإثيوبية التي عمل لها الزعماء السابقين لأثيوبيا في النصف الثاني من القرن الماضي يبقى الشعب الأثيوبي يرزح تحت العوز والفقر بانتظار المخلص.
*باحث في الشؤون الأفريقية