إيران لن تتسرّع بالردّ العسكري على اغتيال فخري زاده
} د. منذر سليمان وجعفر الجعفري
فور تنفيذ عملية الاغتيال (27 تشرين الثاني/ نوفمبر) توجّهت سهام الاتهام إلى جهاز الاستخبارات «الإسرائيلي – الموساد»، بتعاون أميركيّ، ليس من الجانب الإيرانيّ المعني الأول بذلك فقط، بل من الجانب الأميركي «شبه الرسمي» أيضاً.
العالم محسن فخري زاده كان على رأس قائمات المطلوبين أميركياً منذ عهد الرئيس الأسبق جورج بوش الإبن، و»إسرائيلياً»، بدليل اعتراف مسؤولي استخباراتها بأنّ محاولة سابقة لاغتياله تمّ إعدادها وتأجّل تنفيذها في اللحظات الأخيرة. أما رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، فقد استعرض اسم «الدكتور محسن فخري زاده» في مهرجان إعلامي عقده في العام 2018، متبجّحاً: «تذكروا هذا الإسم: فخري زاده».
بوسعنا القول إنّ الولايات المتحدة اعترفت أيضاً بكلام «غير رسمي» على لسان الرئيس ترامب نفسه خلال الساعات الأولى للاغتيال، بنشره تغريدة في حسابه الرسمي ينقل فيها الخبر عن المصادر «الإسرائيلية»، وباللغة العبريةّ التي لا يتقنها مطلقاً.
وسرعان ما استُحضر تاريخ الرجل في الإعلام، بوصفه «أب القنبلة النووية، وأنه انكبّ يعمل في السنوات الأخيرة على مشروع تصغير حجم الرأس الحربي النووي وتمكينه من الاحتفاظ بفاعليته في مرحلة دخول الصاروخ الباليستي الحامل إلى الغلاف الجوي نحو الهدف».
حيثيات الاغتيال والاحتمالات الأكثر ترجيحاً لكيفية وقوعه، تبقى مرهونة بتوفر معلومات عملياتية دقيقة، وهو أمر يستبعد إنجازه قريباً لدواعي السرّية، ولنا عودة أدناه لمناقشة الأمر.
في وقت لاحق من يوم الاغتيال، كشفت صحيفة «نيويورك تايمز» عما أخبره بها «مصدر أميركي رفيع المستوى»، قائلاً «إنّ إسرائيل هي المسؤولة عن تنفيذ الاغتيال»، من دون أن توضح هويته أو سبب يقينه من الفاعل.
تزامن الاغتيال مع حشد الولايات المتحدة موارد عسكرية إضافية، بإعلان سلاح البحرية عن تحرك حاملة الطائرات النووية «نيميتز» للمرابطة في المنطقة، مع نضوج قرار سحب عدد من القوات الأميركية من أفغانستان، بموجب تصريحات القادة الأميركيين.
ربما لا يشكّل تحريك الحاملة النووية إلى المنطقة عاملاً كافياً للاستنتاج بأنّ هجوماً عسكرياً على وشك الانطلاق، إذ تفترض الخبرة العملياتية والعقيدة العسكرية الأميركية وتتطلب تحريك عدد من القطع البحرية الأخرى، تعززها غواصات حاملة للصواريخ ومدمّرات وطرّادات.
سلاح اغتيال العلماء دخل الخدمة الفعلية عند صناع القرار السياسي منذ بدء عصر التقنية النووية مطلع عقد الأربعينيات من القرن الماضي، بمخطط أميركي «لخطف أو اغتيال» عالم الفيزياء الألماني فيرنر هايزنبيرغ في العام 1942، نظراً إلى الفجوة العلمية آنذاك بين تقدم التقنية الألمانية وحتمية نجاحها في صنع قنبلة نووية، والجهود الأميركية الموازية في «برنامج مانهاتن» النووي.
الخبير الأميركي في الطاقة النووية لدى جامعة هارفارد العريقة، ويليام توبي، اعتبر أنّ «أقصى ما تطمح إلى تحقيقه الجهة المنفذّة لاغتيال علماء الطاقة النووية هو تأجيل وليس إيقاف سير البرنامج النووي للخصم، وربما تشكيل عامل ردع لانضمام عقول وكفاءات أخرى إلى البرنامج»، (27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020).
وشدّد توبي على ما يوفّره سلاح اغتيال العلماء من مساحة «إنكار المسؤولية» للطرف المعتدي، نظراً إلى تعقيدات البرنامج النووي لأي دولة، وإلى طبيعة العمل العسكري المباشر وهويته الحاسمة. وحذّر أيضاً من النتائج العكسية على المديين القصير والمتوسط من فعالية الاغتيال، إذ سيقود الطرف المعتدى عليه بخفض سقف تعاونه مع الهيئة الدولية للطاقة النووية، «وربما إنهاء التعاون معها بالكامل».
في بُعد ساحة الاغتيال، لوحظ ارتباك غير مسبوق في سردية السلطات الإيرانية، وتعدّد المسؤولين الذين أدلوا بدلوهم، لكنّ العامل المشترك الأبرز هو الكشف عن ثغرة أمنيّة في الأجهزة الإيرانية، ليست الأولى في استهداف علمائها، أدت إلى ما أدت إليه.
الثابت أمامنا أننا شهدنا منذ العام 2007 سلسلة عمليات تفجير أدّت إلى مقتل 4 علماء إيرانيين، وفشل عملية أخرى. وقد قيل إنّ نشاطاتهم كانت في سبيل تطوير البرنامج النووي الإيراني، وتراوحت الآليات بين «غاز سام ربما مصدره الحقيقي حادث عرضي في المنشأة، إلى التفجير بالتحكم عن بُعد، وإطلاق النار مباشرة على سيارة تُقّل الشخصية المعنية». والآن تتردّد سردية جديدة عبر استخدام طائرة مسيّرة وأجهزة مراقبة تعمل بالأشعة تحت الحمراء أيضا يتمّ التحكم بها عن بعد.
التصريحات الإيرانية المتتالية لم تستند إلى سردية معينة، سوى أنّ الاغتيال يعتبر قرار حرب، بل شهدنا 3 تفسيرات أو اجتهادات تحاكي آليات تنفيذ العملية: تعرّض سيارة فخري زاده لوابل من الرصاص، بالتزامن مع انفجار قاطرة قبل وصوله، ما أدّى إلى إبطاء حركته، وكمين بشري معزز بنحو 12 عنصراً، من ضمنهم قناصة، وإطلاق «رشاش بتحكّم عن بعد» صليات من الرصاص.
النظرية الأخيرة، رشاش عن بعد، ليست مستبعدة تماماً في ظلّ تقدّم التقنيات الالكترونية، وخصوصاً «أسلحة متطورة عبر استخدام الإنسان الآلي»، بحسب اسبوعية «فوربز» الأميركية (30 تشرين الثاني/نوفمبر 2020).
أكدت المجلة، نقلاً عن مصادرها العسكرية، أن سلاحاً مبتكراً للتصويب والإطلاق عن بُعد استخدم في سورية «عبر الجيش السوري الحر في محيط مدينة إدلب في العام 2013»، وانتقلت النماذج الأولية منه إلى سيطرة واستخدام القوات الكردية وعناصر «داعش»، بحسب تقرير للجيش الأميركي في العام 2016، بعنوان «التحكّم عن بعد لأسلحة قناصة ورشاشات من قبل الإرهابيين والمتمرّدين».
ومع استهداف مكثّف لاصطياد برج الدبابة الأميركية في أفغانستان والعراق، استبدلت القيادة العسكرية الأميركية العنصر البشري في البرج عبر نظام «CROWS»، الذي يسمح بالتحكّم عن بعد بمركز أسلحة، زوّدت الشركة النرويجية «كونغزبيرغ» بنحو 200،000 نظام من هذا النوع للجيش الأميركي وهو نظام معزّز بتقنيات الكاميرا الحرارية، تم إدخالها الخدمة على العربات القتالية الأميركية.
تقنية المناظر الليلية العاملة بالأشعة تحت الحمراء متوفرة في السوق التجاري الأميركي، وإن بمواصفات متدنية نسبياً عن النماذج الحربية، وهي من صناعة شركة «الشبكة الأميركية للتقنية – ATN» زوّدت بها القوات الخاصة الأميركية. ومن ميزاتها التحكّم عن بعد بالمناظير الليلية، وهي معززة بحاسوب «باليستي» لضمان الدقة.
من أبرز استنتاجات تقرير المجلة المذكورة ما وصفته من «ميزات إيجابية» لذاك السلاح، وهي تقليص عنصر المغامرة بمقتل أو اعتقال المتحكّم بالسلاح إلى الصفر، واستحالة رصد وتعقّب إحداثيات مصدر الهجوم.
ورجّحت المجلة أنّ استخدام السلاح عن بُعد لم يترك أيّ أثر يستفيد منه المحقّقون الإيرانيون، على الرغم من إحدى السرديات الرسمية التي أشارت إلى توفر أدلة في الموقع تربط الهجوم بالأجهزة «الإسرائيلية»، بل إنّ «اخفاء هوية» المنفّذ هو الدافع الرئيسي وراء تسخير عدد من الدول لتلك التقنية باستخدام الطائرات المسيّرة، على سبيل المثال.
الخبراء الأمنيون والعسكريون يجمعون على أنّ هذه العملية «تشكل خرقاً أمنياً كبيراً استلزم قدرات استخباريّة واحترافاً عالي المستوى لا تملكه إلا الدول المحترفة لعمليات «إرهاب الدولة»، وأنّ الفاعل اكتشف ثغرة ما في المنظومة الأمنيّة الداخليّة في إيران، فاستغلها واستطاع ان ينفد منها، ما مكّنه من النجاح». وهو ما يفنّد إحدى السرديات الإيرانية بأنّ أجهزة استخباراتها كانت «على علم بهجوم وشيك».
في البعد السياسي الصرف، بما أنّ الحروب هي تطبيق للسياسة بأدوات أخرى، وفق كارل فون كلاوس فيتز، ينتقل مركز الثقل لأهداف العملية إلى الصراع الدائر بين الساسة الأميركيين، في ظلّ تصريحات مواربة للرئيس المنتخب جو بايدن، بأنه سيستأنف عضوية الولايات المتحدة في الاتفاق النووي الدولي، «مع تشديد بعض الشروط وإضافة أخرى».
ومن هذا المنظار، يؤكّد المراقبون الأميركيون تحديداً «تأجيل» الردّ الإيراني الموعود، كي يترك فسحة زمنية للإدارة المقبلة للتعامل إيجابياً مع الاتفاق الدولي، وربما العودة إلى إلغاء بعض العقوبات الأميركية التي فرضتها إدارة الرئيس ترامب المنتهية ولايته.
في هذا الصدد، لا يجوز إغفال حقيقة العداء الأميركي الرسمي للنظام الإيراني وتجذّره، والتذكير بين فترة وأخرى بحادثة السفارة الأميركية في طهران واحتجاز موظفيها لعدة سنوات مع انتصار الثورة الإيرانية في العام 1979.
وفي المستوى عينه، يدرك المرء إجماع صنّاع القرار الأميركي على عدم السماح لإيران بامتلاك المعرفة النووية وصنع الأسلحة، استناداً إلى التزام المؤسّسة الحاكمة بكامل أجنحتها وتياراتها «بضرورة الحفاظ على تفوّق «إسرائيل» على جميع الدول في المنطقة» بأسلحة نوعية ممنوع على الأطراف الأخرى، منفردة أو مجتمعة، اقتناؤها، بل يذهب بعض كبار الاستراتيجيين الأميركيين إلى القول: «بصرف النظر عن هوية الرئيس الأميركي، فسيستمرّ العداء في العلاقات مع إيران كما رأينا وشهدنا خلال العقود الأربعة الماضية، وستستمرّ إيران في لوم الولايات المتحدة و»إسرائيل» لأي حوادث تتعرّض لها في المستقبل المنظور، سواء ثبت تورّطهما فيها أم لا».
مع كتابة هذه السطور تتعزز إمكانيّة تأجيل الضربة الانتقامية الإيرانية، وليس إمكانية الغائها، إذ ينظر الى التفاعلات الداخلية في الكيان الإسرائيلي المتأزم، والتصريحات المرنة للرئيس المنتخب بايدن حول الملف النووي الإيراني، مصحوبة بجدال في الداخل الإيراني حول التكتيك والاستراتيجية القصيرة المدى للردّ الأفضل على جريمة الاغتيال، باعتبارها عوامل لن تجعل طهران تتسرّع بردّ عسكري/ أمني، لتبقي لديها هامشاّ من الحركة والخيارات المناسبة، بحسب جدولها، وليس جدول الآخرين.