علاج نفسي قبل تغيير الحاكم
} أحمد بهجة*
يتطلّب علاج المشاكل في أحيان كثيرة الانتباه إلى الجوانب النفسية لدى بعض الأشخاص المعنيين بهذه المشاكل. وبعد ذلك ربما تهون المعالجات الحسّية والواقعية لأنّ من يتلقى العلاج يكون قد تهيّأ نفسياً لذلك.
وحتى لا يبقى الحديث في العموميات ندخل فوراً إلى صلب موضوعنا وهو المتعلق بما يثيره حاكم مصرف لبنان رياض سلامة من مشاكل وأزمات تمادت طيلة 27 عاماً ووصلت اليوم إلى حدّ الاستعصاء على المعالجات والحلول.
لطالما قيل إن لا حاكم في لبنان إلا حاكم مصرف لبنان. في الأساس كان المقصود أنّ صفة الحاكم من حيث المفردة اللغوية لا تُطلق إلا عليه، ولكن تبيّن مع الزمن أنّ هذه الصفة تطبّق فعلياً وليس فقط اسمياً، إذ انّ الحاكم المُمدّد له منذ العام 1993 حتى اليوم تصرّف كأنه حاكم مطلق فوق كلّ السلطات والرئاسات والمؤسسات، ووضع السياسات التي تناسبه وتناسب مَن يغطيه سياسياً وقضائياً، في الداخل والخارج، من دون أيّ اعتبار لمصلحة الاقتصاد الوطني وبالتالي مصلحة مجموع المواطنين.
طوال تلك السنوات لم يكن هناك لا حسيب ولا رقيب، بل انّ مَن يُفترض أنّ مهمّتهم المراقبة والمحاسبة كانوا شركاء للحاكم في كلّ ما اقترفت يداه من جرائم، وكانت النسب المئوية «الحرزانة» تذهب لهذا وذاك من «المحاسبين والمراقبين»، سواء في بعض مواقع القرار أو في بعض منابر الصحافة والإعلام على اختلافها.
كانت الأمور مكشوفة ومعروفة لمن لم يتورّط في لعبة العمولات والسمسرات، وإذا كان الصندوق الأسود قد أعمى البصر والبصيرة لدى الغالبية، فقد كانت هناك أقلية من الناس تحاول الإضاءة على مكامن الخلل والتنبيه من مخاطر السياسات المتبّعة منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، وهنا لا يصحّ المثل القائل “لا حياة لمَن تنادي” لأنّ أولئك المستفيدين كانوا يضجّون حياة إلى حدّ الصخب، لكنهم كانوا في الوقت نفسه يجيدون التعمية على الحقائق.
ولعلّ أبرز مثال على ذلك جلسة مجلس النواب الشهيرة عام 1997، والتي أجاز فيها البرلمان للمرة الأولى للحكومة أن تصدر سندات خزينة بالعملات الأجنبية، وكانت “الفذلكة” يومها هي ما سُمّيَ “إعادة هيكلة الدين العام” بينما الحقيقة هي أنّ تلك السندات كانت دَيْناً جديداً أضيف إلى أرقام الدين العام مع فوائده الباهظة. وهذا ما جعل عدداً من النواب البعيدي النظر والبعيدين عن السرقات والسمسرات يرفعون الصوت محذّرين من الكارثة التي سوف تتسبّب بها الاستدانة بالعملات الأجنبية، ورغم ارتفاع صوت هؤلاء الأوادم، وعلى رأسهم ضمير لبنان الرئيس الدكتور سليم الحص، فقد أجاز البرلمان للحكومة برئيسها رفيق الحريري ووزير ماليتها فؤاد السنيورة ومعهما طبعاً الحاكم (ما غيره) وكلّ مجموعة المستفيدين، إصدار سندات بقيمة ملياري دولار، لتنطلق منذ ذلك الوقت عجلة الدين الخارجي والتي أخذت تكبر وتكبر حتى وصلنا فعلياً إلى الكارثة التي حذرت منها القلة القليلة من النواب والخبراء والعارفين.
طبعاً الحلول المطلوبة اليوم معقدة وصعبة وتحتاج إلى وقت حتى تظهر نتائجها، هذا إذا تمّ اعتماد الحلول العلمية الصحيحة، وفق الخطة الواضحة التي وضعتها حكومة الرئيس الدكتور حسان دياب، من دون وضع العصي في الدواليب كما يفعل الحاكم وجمعية المصارف وبعض الأفرقاء السياسيين المتورّطين حتى النخاع الشوكي في الهدر أولاً ثم في تهريب الأموال إلى الخارج، وهؤلاء لا يريدون لأيّ خطة أن تنجح، وسوف يستمرّون في عرقلة أيّ مسعى يهدف إلى وضع المالية العامة على سكة الشفافية، بدليل قطع الطريق على التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان لأنّ هذا التدقيق من شأنه أن يكشف كلّ ما كان مستوراً ومخفياً منذ ثلاثة عقود…
ختاماً نعود إلى العلاج النفسي حيث لا بدّ من إدخال تغيير على التسميات وإلغاء كلمة حاكم واستبدالها بكلمة رئيس مثلاً، وبدلاً من القول حاكم مصرف لبنان يمكن أن يكون رئيس مصرف لبنان أو رئيس المجلس المركزي لمصرف لبنان، وهكذا تنتفي العقدة النفسية من فرادة هذا اللقب في الدولة اللبنانية، ويصبح هذا المسؤول مثله مثل غيره، على الأقلّ من حيث التسمية، على أن تتبع ذلك ممارسة صحيحة للعمل بشكل علني ومكشوف تحت المجهر القانوني والإعلامي والشعبي…
*خبير مالي واقتصادي