عمّان يا عمّان
} الأمين سمير رفعت
كان شارع الحمرا في بيروت ملتقى المثقفين والصحافيين والأدباء والفنانين، فمن أضاع صديقاّ كان يجده في شارع الحمرا اوفي مقهى الهورس شو الذي كان «بؤرة» ثقافة وسياسيبن وشعراء… كنا نمشي آخذين الشارع من أوله وحتى نزلة أبوطالب في آخره ثم نعود لنحتسي قهوة الهورس شو وندردش مع هذه الطاولة وتلك، الجميع يعرف الجميع فلا غريب بينهم، وكانت بيروت في بداية السبعينيات تعجّ وطنية ومقاومة خاصة بعد أن وفد إليها رجال المقاومة الفلسطينية من الأردن بعد أحداث أيلول الأسود – عمّان.
كنت أتمشى وزهير الوزير شقيق خليل الوزير أبو جهاد القائد الفلسطيني الذي فجّر انتفاضات الضفة الغربية في ما بعد.. أبو جهاد، أهداني مسدسه الذي رافقني من عمّان الى بيروت فدمشق حتى تعرّض بيتي هناك للسرقة فكان بين المسروقات مع المال والحلي العائد لزوجتي. وحين اتصل بي اللواء محمد خضور مدير إدارة الأمن الجنائي في سورية يعلمني أنهم أمسكوا بأحد السارقين، ذهبت وزوجتي للتعرّف عليه، أحضروا شاباّ في مقتبل العمر وقد اعترف بأنه واثنين من أترابه قاموا بسرقة منزلي، نظرت الى زوجتي فوجدتها وقد امتلأت عيناها بالدموع، ووقفت وقالت للواء خضور: نحن نسقط حقنا في الادّعاء على هذا الشاب… وقفت مستغرباّ موقفها الذي لم أفهم دافعه، حتى خرجنا من مبنى إدارة الأمن الجنائي وسألتها لماذا قامت بهذا العمل؟ أجابتني ودموعها ما زالت تنهمر: قبل أيام قام الشهيد وجدي الصايغ بعمليته الاستشهادية البطولية، هذا الشاب يشبهه كثيراّ تخيّلته أمامي فلم أستطع الاستمرار في الادّعاء عليه، ثم لو أننا وصلنا بأفكارنا إليه ما كان مشروع سارق، بل قد يكون كوجدي مشروع رفيق أو شهيد.
وبعد فترة ليست طويلة زارني اللواء محمد خضور مدير إدارة الأمن الجنائي في منزلي بدمشق يرجوني ان نلغى إسم ابن أخته من قائمة الاستشهاديين القوميين الإجتماعيين، إذ كان رفيقاً وتقدّم ليقوم بعمل استشهادي ضدّ عدو الوجود في لبنان، قال لي: إنه وحيد أمه ويرجو أن نتجاوزه الى رفيق آخر.
بعد هذه الحادثة بأيام قلائل وقف شاب أمام سيارتي قاطعاً طريقي وكانت زوجتي بجانبي، قال معرّفاً بنفسه أنا الرفيق فلان لقد سجلت إسمي في عداد الرفقاء المتأهّبين للاستشهاد وأرى أنّ دوري لم يأت بعد، وأخاف ان تنسحب «إسرائيل» قبل أن أقوم بعمليتي… أقسم بسعاده أنني سأنتحر عند ذلك.. هدّأت من روعه وعرفت انه الرفيق إبن أخت اللواء محمد خضور وعلمت انه بقي وحيداً لأمه.
أعود الى شارع الحمرا… وزهير الذي درس الطب في رومانيا، ويوم تخرّجه من الجامعة ولحظة توزيع شهادات التخرّج، نودِيَ على زهير الوزير يتسلم شهادة تخرّجه وحين قرأها وجد انّ وطن الطالب المتخرّج زهير الوزير هو «إسرائيل»! اعترض أمام الجميع على التسمية مُصراً على انّ وطنه اسمه فلسطين… لكنهم أجابوه أنّ فلسطين اليوم هي «إسرائيل» بنظر العالم أجمع… حينها أجابهم بكلّ ثقة: أنا بالنسبة لي فهي فلسطين وستبقى فلسطين، لذلك أرفض تسلّم شهادتي طالما أنها تحمل اسم «إسرائبل». وبالفعل عاد من رومانيا بعد دراسة سنوات طويلة دون أن يحصل على شهادة التخرّج.
أعود الى شارع الحمرا، وبينما كنا نتمشى زهير وأنا، فاجأني في الشارع الضابط الأردني الذي لقِيني أمام مبنى المخابرات في العام 1970 بصفعة على وجهي وصفة كلب بعد ترحيبه بي ظناّ منه اني آتٍ من التلفزيون الأردني، كان بلباس مدني وبجانبه سيدة تقابلنا وجهاً لوجه، فتسمّر هو في مكانه بينما السيدة رحّبت بي بمودة زائدة قائلة لي: أهلاّ بمذيعنا المحبوب أراك هنا.. ترى هل تركت عمان؟
التفتت الى الشخص الذي يرافقها قائلة له: يوسف ألم تتذكر الأستاذ سمير إنه المذيع في التلفزيون الأردني… أما هو فلم ينبس ببنت شفة… عندها وجهت كلامي إليهما مرحباً باحترام وعارضاّ خدماتي عليهما ظناّ مني أنهما يزوران بيروت… قلت لهما أنا أضع نفسي بتصرفكما وسيارتي كذلك حتى تنهيا زيارتكما السياحية الى لبنان.. شكرتني السيدة ثم غادرا.
التفت لزهير الوزير أكمل مشواري معه.. قال متسائلاً: هل تعرف الملحق العسكري الأردني قي لبنان! أجبته بالنفي.. ولكني رويت له حادثتي معه أمام مبنى المخابرات ساعة اعتقالي. استغرب بل استهجن زهير لطفي الزائد معه ومع زوجته بينما كنا نستطيع ان نسمعه أسوأ الكلمات إنْ لم يكن أكثر من ذلك.. خالفت زهير في موقفه قائلاّ له: عند ذلك سأكون مثله تماماّ…
مرّت السنوات وطلب مني الأستاذ أحمد اسكندر أحمد وزير الإعلام الشامي خلال فترة المصالحة الشامية – الأردنية أن أذهب الى عمّان لإجراء برامج للتلفزيون السوري… ووجد وزير الإعلام صعوبة في إقناع وزير الإعلام الأردني عدنان أبو عوده بالموافقة على استقبالي لما لي معه من تاريخ حافل خلال أحداث أيلول 1970… ذهبت إلى عمّان وصورت فيلمين تلفزيونيين الأول عن الجامعة الأردنية، والثاني عن مدينة الحسين الطبية.
خلال وجودي في عمّان قال لي ابن أختي الدكتور طالب الرفاعي وكان عميداً لكلية الهندسة في الجامعة الأردنية أنّ زوجة أحد الأساتذة تدعونا الى العشاء في منزلها في عمّان… والدعوة على شرفي، ولم أكن أعرف السيدة او حتى زوجها زميل طالب في التدريس بكلية الهندسة.
ذهبنا الى العشاء في فيلا جميلة في عمّان وكان المدعوون من أصدقاء وزملاء طالب كلّ مع زوجته، كان العدد كبيراّ. بعد العشاء توقفت السيدة صاحبة الفيلا مطالبة الجميع بالاستماع إليها عن سبب إقامة هذه الدعوة على شرفي وبسبب وجودي في عمّان، قالت إن الأستاذ سمير قد أعطى أخي درساّ في الأخلاق لم يستطع نسيانه، فأخي كما تعرفون هو العميد فلان تصرّف مع الأستاذ سمير رفعت خلال أحداث أيلول الأسود تصرفاّ لا أخلاقياّ أمام مبنى المخابرات.. وبالمصادفة التقيا في بيروت حين كان ملحقاّ عسكرياّ هناك… ومن دون أن يعرف الاستاذ سمير سبب وجود أخي في بيروت، ظنه سائحاً أو زائراً عادياّ، قدّم له ولزوجته كلّ الترحيب وعرض عليه ما يستطيع من خدمات وهو القادر أن يردّ له سوء تصرفه.. لكن أخلاقه منعته من ذلك.. وحين عرفت بوجود الأستاذ سمير خال الدكتور طالب زميلنا في عمّان أردت أن أعبّر له عن اعتذارنا الشديد.. وحاولت إقناع أخي بالحضور الليلة لكنه قال لي إنه لا يستطيع مواجهة الأستاذ سمير… لذلك فأنا أعتذر نيابة عنه…
شكرتها على دعوتها وعلى محاولة تصحيح ما فعله غيرها، ثم حاولت أن أغيّر جوّ الدعوة بعد أن حاول البعض معاودة الأحاديث السطحية التي كانت تطرح قبل مبادرة صاحبة الدعوة بشرح سبب الدعوة.. إذ كانوا يتحدّثون عن موديلات السيارات والفيلات الحديثة التي شيّدت وآخر صرعات الموضة النسائية.. سألت الجميع وقد كانت الحرب الأهلية اللبنانية قد اندلعت، من منكم يعرف سبب الصراع الذي تشهده المدن اللبنانية بين الأهل، هل يعرف أحدكم دور العدو «الإسرائيلي» في إذكاء الصراعات الطائفية والمذهبية بين أبناء البلد الواحد… كما في الأردن وقبرص ولبنان، ورحت أشرح للجميع مدى الدور التخريبي والتآمري الذي يقوم به من ارتبط بهذا المشروع… وطال الحديث حتى ساعات الصباح وغادرت بعدها شاكراً لأهل البيت دعوتهم…
في الثامنة صباحاّ، بينما كنت أهمّ بالاستيقاظ بعد سهرة طويلة اتصل بي موظف الاستعلامات في الفندق الذي أنزل فيه، قال لي: هناك سيدة تريد محادثتك.. تحدثت معها فعرّفت بنفسها: «أنا أمينة بزوقة مديرة مكتب رئيس الجامعة الأردنية، كنت أمس في العشاء الذي أقيم على شرفك»… رأيتها، وتذكرت أنها كانت مستمعة جيدة لحديثي عن أحداث لبنان والمنطقة، قالت لي: أتيت أسألك لماذا تختلف باهتماماتك عن الآخرين.. كانت اهتماماتهم بموديلات السيارات الحديثة، فلان اشترى تلك السيارة وفلانة أنهت الفيلا العائدة لها، وثالثة راحت الى اوروبا لشراء آخر صرعات الموضة… وأنت تتحدث عن الصراع مع العدو «الإسرائيلي»، وكيف أنه صراع وجود لا صراع حدود.. وما دور هذا العدو في صراعاتنا المحلية… أجبني لماذا تختلف عن الآخرين؟
فاجأتني بسيل الأسئلة التي ذكرت بعضاً منها، وسألتها ألا يوجد مكتبة عامة في الجامعة الأردنية… اذهبي إليها وفتشي عن أيّ مؤلّف للزعيم أنطون سعاده، المحاضرات العشر، نشوء الأمم، الإسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية، وغيرها، وباشري بقراءته حتى تتعرّفي على سبب اختلافي عن الآخرين.
ذهبت الى الجامعة الأردنية إلى موعد لي في الحادية عشرة من نفس اليوم ذاته مع رئيس الجامعة لأبحث عن فكرة الفيلم الوثائقي عن الجامعة.. سألت عن أمينة بزوقة التي من المفروض ان تستقبلني في مكتب رئيس الجامعة.. فقيل لي إنها أخذت إجازة اليوم وهي موجودة في مكتبة الجامعة…
أنهيت مهمّتي في الأردن وعدت الى دمشق وبعد سنوات جاءني هاتف… أنا الرفيقة أمينة بزوقة سآتي الى دمشق لملاقاتك غداّ حضرة الأمين سمير… تحيا سورية… انتهى الهاتف.