غانتس وإستراتيجية «إسرائيل» الجديدة في الشّرق الأوسط
} د. أحمد لقمان الزين
لعلّنا لا نغالي إذا قلنا إنّ عطّار التّطبيع العربي مع «إسرائيل» لن يقدر على إصلاح ما أفسده دهر الاحتلال للأرض العربيّة.. ولعلّنا لا نجانب الصّواب كثيراً إنْ قلنا إنّ هذا التّطبيع لن يقدّم أو يؤخّر كثيراً في التوازنات القائمة في الإقليم.. فلا الدّول المطبّعة كانت تخوض حرباً مع العدو الصّهيوني ولا «إسرائيل» كانت يوماً بعيدة في تعاملاتها التجاريّة والأمنية عن هذه الدّول..
عشرات السنين من القهر والظّلم طالت البشر والحجر في فلسطين ولبنان وتعدّتهما إلى سورية والعراق ومصر لتمسّ ضمير كلّ إنسان سواء كان عربيّاً أم غير عربي، فالإنسانيّة لا تتجزّأ وفلسطين قضيّة إنسانيّة قبل أن تلبس أيّ لبوس عربيّاً كان أم إسلاميّاً أو مسيحياً…
لقد عرفت بلادنا العربيّة احتلالات كثيرة على مدى تاريخها لكنّ أياً من هذه الاحتلالات لم يخرج الناس من أرضهم ولم يغيّر تاريخهم أو يتدخّل في قيَمهم كما تفعل «إسرائيل» منذ زرعت بين ظهراني هذه الأمّة إلى الآن… على أنّ «إسرائيل» ليست مجرّد احتلال عاديّ.. هو استعمار تؤمن بضرورته دول عظمى فتتبنّاه وتدعمه وتمدّه بكلّ سبل العيش والاستمرار، وقد رأينا بريطانيا تتولّى مهمّة إنشاء الكيان ورعايته بداية، وها هي الولايات المتّحدة تقوم بالمهمّة الاستعمارية ذاتها وإن بأساليب مختلفة..
لكنّ سيرورة وجود هذه الدّولة تكشف عن أبعاد استراتيجية مدروسة بدقّة وتخطّط لها عقول كبرى وبالتالي فإنّ مجرّد صمودها في هذا البحر من البشر الرافض لوجودها يعتبر «إنجازاً عظيماً» في الموازين الاستراتيجيّة، فما بالك بسيطرتها وتوسّعها.. حقيقة مؤلمة صحيح لكن لا يمكن تجاهلها.. عقول استراتيجيّة استطاعت أن تصل إلى العالم الغربي القوي وأن توظّف قوّته في سبيل قيام هذه الدّولة، كذلك استطاعت أن تلعب على تناقضات الشرق الأوسط المرهق وأن تستغلّ هذه التناقضات للهدف ذاته..
والحقيقة أنّ من ينظر اليوم إلى الصّعود الإسرائيلي غير المسبوق وسط هذا التردّي في الواقع العربي قد يعتقد أنّ الأمور محسومة لصالح «إسرائيل»، إلاّ أنّ العقول الاستراتيجيّة المخطّطة لهذا الكيان تدرك أنّ هذه الشّعوب العربيّة الرّازحة تحت نير الفقر والظّلم والتّضليل لن تلبث أن تستعيد حيويّتها وعداءها المتأصّل لكيان ترى فيه سبباً لكلّ مآسيها، عندها لن يستطيع هذا الكيان الصّمود من جديد.. لئلك تسعى «إسرائيل» لاستراتيجية جديدة في محيطها لا تخلق لها هذا الكمّ من الكراهية والعداء…
من هنا رفض قسم كبير من «الإسرائيليين» لصفقة القرن، كما يحلو لترامب أن يسمّيها، وهي صفقة أقلّ ما يقال فيها إنّها غير متوازنة تعطي كلّ شيء للكيان الصهيوني وتحرم الفلسطينيين من حقهم في أرضهم مقابل ازدهار اقتصادي موعود هو للسراب أقرب منه للواقع.. بالاضافة الى رفض صفقة القرن، لم ترحب العديد من المظمات اليهوية في أوروبا بمخططات التوسع والاستيطان التي بدأها نتياهو مؤخراً، لا بل هاجمته بضراوة.
وحسب مصدر أوروبي رفيع المستوى، فإنّ المنظمات اليهودية المؤثرة ومعهم جو بايدن الرئيس الجديد للولايات المتّحدة يرون أنّ العودة إلى المفاوضات على قاعدة حلّ الدّولتين ستكون أفضل لدولة «إسرائيل» في المنظور الاستراتيجي، أمّا ما قدّمه ترامب من هدايا لـ «إسرائيل» فلم يكن بنظر هؤلاء إلا مجرّد خدمات الهدف منها تعويم نتنياهو الغارق في قضايا الفساد لكنّها ليست ذات جدوى استراتيجيّة بالنّسبة لوجود «إسرائيل» في المنطقة.. ويؤيد حلّ الدّولتين الكثير من الشخصيات اليهودية النافذة ومنهم دان روزنفيلد اليهودي البريطاني الذي تمّ تعيينه رئيساً لديوان داونينغ ستريت، في أكبر تعيين سياسي في مكتب رئيس وزراء المملكة المتحدة، وهو ثالث أقوى مسؤول بريطاني على الإطلاق بعد رئيس الوزراء ووزير الخزانة، وكان سبق لروزنفيلد أن تولى منصب أمين عام منظمة الإغاثة اليهودية العالمية منذ العام 2016، وأنتوني جون بلينكين وهو مسؤول حكومي يهودي أميركي ودبلوماسي اختاره جو بايدن كمرشح لوزارة الخارجية.. ومن الأمور التي يجب التوقف عندها، أننا للمرة الأولى نشهد تعيين شخصيات عديدة من أصل يهودي في مراكز شديدة الحساسية في دول عظمى. كما يبدو أنّنا سنشهد الكثير من هذه التعيينات ليهود يتولّون مناصب حسّاسة في دول العالم الغربي بشكل مباشر بعدما كان تأثيرهم في السياسات الغربية من وراء الستار…
ويؤكد هذا المصدر أنّ الانتخابات «الإسرائيلية» المقبلة التي صدّق عليها الكنيست ستشهد سقوطاً مدوياً لنتنياهو «بي بي» وملاحقته قانونياً بقضايا فساد، وانتخاب بيني غانتس كرئيس لوزراء «إسرائيل».
من الجدير ذكره، أنّ والدة غانتس، مالكا، هي ناجية من الهولوكوست في معسكر «برغن بيلزن» وهذه صفة يتشارك بها مع أنتوني بلينكين من جهة زوج أمه الذي هو أيضاً ناجٍ من الهولوكست. وهل هي محض صدفة أنّ احتضان الناجين من الهولوكست هو العمل الأساسي لمنظمة الإغاثة اليهودية العالمية التي يرأسها دان روزنفيلد منذ العام 2016…
المعسكر الخماسي بايدن، بلينكين، روزنفيلد، غانتس وايباك يرون الآن أنّ من صالح «إسرائيل» تنفيس الغضب الشعبي ضدّها عبر السّماح بقيام دولة فلسطينيّة ستكون بلا شكّ مهمّشة ومقطّعة الأوصال، لكنّ قيامها سيتيح لـ «إسرائيل» الانطلاق نحو الدّول العربيّة في احتلالات مقنّعة تعينها عليها شعوب يائسة وحكّام متهاونون خائفون يدفعهم خوفهم إلى الاختباء في عرين الأسد بدلاً من إجراء إصلاحات تعزّز منزلتهم بين شعوبهم وتسير بدولهم إلى الأمام.. وكلّنا يعلم أنّ الحلم الإسرائيلي لا يقف عند حدود فلسطين..
يؤكد المصدر أنّ حلّ الدّولتين هو الّذي سيكون على الطاولة للسنوات العشر المقبلة، وسيكون عرّابه جو بايدن ومنفذه بيني غانتس، وستحاول «إسرائيل» الانطلاق من خلاله نحو أن تصير مقبولة في المنطقة، وأن تتوسّع فيها اقتصادياً وسياسياً وقيميّاً بعيداً عن أيّ تصعيد عسكري..
هنالك في الحقيقة شرق أوسط جديد بدأت معالمه بالتبلور.. شرق أوسط يهدأ فيه الجميع حول طاولة مفاوضات، برعاية أميركية، ستسمح بالحوار وبعقد الصّفقات لكنّها لن تعيد الحقوق ولن تحفظ الثروات ولن تضمن مستقبلاً مشرقاً لشعوبنا التي تتوق إلى العدالة..
مثل هذا الأمر سيفرض على القوى الممانعة في المنطقة تحدّيات جديدة.. هذه القوى التي نجحت في الميدان العسكري في إقامة شيء من التوازن يحدّ من الاندفاعة الصهيونية، وعليها اليوم تجهيز نفسها لخوض الحرب الناعمة بفاعلية أكبر. المطلوب من المعسكر المناهض لـ «إسرائيل» تحضير الأسلحة الدبلوماسية ويجب أن تنطلق من ردّ الفعل إلى الفعل وهي ستكون قادرة إذا استطاعت ذلك على منع التغلغل الصهيوني في البيئة العربيّة، وعلى ضمان نهضة شعبويّة تكون هي السلاح الفاعل في مواجهة المشاريع الجديدة وفي قطع حبال الفتن علّ هذا الرقص الإسرائيلي فوق جراحنا ينتهي.
اذن، لا حرب عسكرية في السنوات العشر المقبلة… بل حرب دبلوماسية تفاوضية شرسة…
المعسكر الخماسي الداعم لـ «إسرائيل» بايدن، بلينكين، روزنفيلد، غانتس وايباك سيظهر استراتيجية جديدة لدعم «إسرائيل» غير التي شهدناها مع نتنياهو الذي سينهي حياته وراء القضبان…
حلّ الدولتين سيستبدل صفقة القرن… لكن ما هي عاصمة فلسطين، هل هي غزة كما سيبدأ غانتس بالتفاوض أو جزء من القدس كما سيطالب الفلسطينيون أم الضفة الغربية كحلّ وسط…؟
ختاماً، نداء الى محور الممانعة، الى الحرب الدبلوماسية درّ…