تبديل توجهات بيئة المقاومة… هدف إعلام العدو
} صادق النابلسي
مهنة الإعلام كأيّ مهنة ثقافية ينبغي أن تخضع لمتطلبات النظام وقواعد الأخلاق. ومن الواجب أن لا تبقى تعطّشاً لنشاط لا يُكبح، أو تبديداً لقوى في خدمة قضية باطلة. وحتى عندما يتخذ الرجال الصالحون منها رسالة فإنها لا تخرج عن كونها بحاجة إلى مزايا وفضائل وقيم وأدوات ومواهب في حسن استخدامها والتمرّس في أدائها. وكما قد تأتي الشجاعة والحماسة ليبرزا الفعالية المطلوبة في مزاولتها، فقد يأتي التعصّب والمكر السيّئ ليخرجاها من نطاقها الإنساني ومشروعيتها الاجتماعية إلى جوّ مشحون بالقلق والنزاعات والأزمات. إنّ الإعلام مجال الفضائل كما الرذائل. ومن البدهي أنّ لكلّ نوع من النوعين تأثيراً مختلفاً عن تأثير الآخر. فالنوع الأول يقود إلى الوحدة والانسجام والمحبة ومعالجة المشكلات والتعاون على حلّ الخلافات وتخفيف التوترات وتشجيع الخير بكلّ مساراته، بينما يقود النوع الثاني إلى تعميق الشروخات والفروقات والعداوات بين أفراد المجتمع مستعيناً بكلّ حيلة ومكيدة لتحقيق مآربه وإنْ لزم من هذا الأمر استغلال الحرية أو الذكاء في صرف مقاصد الناس وتبديل توجهاتهم وحرف أنظارهم واستغلال جهلهم. في النوع الأول يحتلّ العقل موقعاً تأسيسياً في نظم الأفعال، فيما يعتمد النوع الثاني على الغرائز والأهواء والمصالح الشخصية التي تزيد ضباب الشكّ لدى المتلقّين وتعيق سير الأحداث وحقائق الأشياء. اليوم، ورغم كلّ الجدل الذي يدور حول مسؤوليات شخصية وعامة، تميل الوقائع المرصودة إلى شيء من اللامبالاة والاستهانة ناجمتين عن التكوين الفكري والأخلاقي أو عن ازدراء كلّ نظام. ما يعني أنّ المهنيّة والشفافية والإحساس الأخلاقي سيكون ظهورها نادراً أو أنّ كلّ التعليمات والتوجيهات والمبادئ ستكون كلها غير صالحة للاستخدام.
إنّ الإعلام في عصرنا الراهن بات يوحي للفكر البشري الاشمئزاز والنفور لتفلّته من الضوابط النظرية والعملية، ولامتلائه بوسائل التضليل والتمويه والتعتيم والإخفاء والإغراء والحيل ما يرتب جهداً كبيراً على المتلقي لفحص المواد المنشورة أو الإدارات المسؤولة والمراقِبة لتهذيبها وصيانتها من كلّ ما يمكن أن يخلّ أحياناً بالمعنى أو الصورة فيعيق ذلك عملية الفهم والإفهام. وكلنا يعلم حجم ما يُضخّ من أموال أو يُخطط من مشاريع بهدف السيطرة على العقول وتشتيت انتباه الجماهير وإلهائها أو الإيقاع بقوى الحق باستخدام وسائل ترغيبية أو ترهيبية قادرة على صرف الخصم عن الهدف الحقيقي. ويمكن ببساطة أن نمثّل بما تعرّضت له المقاومة في لبنان وجمهورها من حروب إعلامية وبأساليب تدليسية وتمويهية في إلباس الكذب صفة الصدق والباطل صفة الحق، أو حين يستخدم العدو حجة مقبولة في الظاهر لكنه في الباطن يراعي هدفاً مموّهاً. فمن أعظم أسلحة العدو هو التلبيس والتدليس والحجج المرائية الملتوية والخديعة والمكيدة ليرى المقاومة في حالة من الضعف، والجمهور المؤيد لها في حالة من الحيرة والاضطراب والشكوك القاتلة، وكان ذلك يستدعي من الأمين العام لحزب الله في أحيان مختلفة الخروج على الناس، مفنداً المغالطات، مبيّناً وناقضاً لها. هنا تظهر أهمية الإعلام المقاوم والملتزم قضايا الحق والإنسان ومعرفته بالمغالطات الشائعة للاقتدار على نقضها سريعاً والتصدي لمختلف أساليب التضليل والكذب. ويقودنا هذا الكلام للإشارة إلى إلى أنّ من يتصفون بالعزيمة الصادقة قد لا يتمتعون بالضرورة بأدنى عمق فكري أو ذكاء خاطف. إنّ المسألة هنا لا تعود إلى الحزم والصلابة فحسب بل إلى سرعة البديهة. إنّ الإعلام ساحة حرب حقيقية يتطلب العمل فيها، لا إلى الحماسة والجهد المهني وتحمل المتاعب فحسب وهذا ما نجده في كثيرين، وإنما إلى الفهم الخاطف لمكائد العدو وسرعة المبادرة إلى اتخاذ القرارات المناسبة. وعلى من يعمل في هذا المجال أن يكون دارياً بأصول وضوابط الصناعة وأن يمتلك قدرات تحليلية وتقويمية تمكّنه من أن يستشفّ الحقيقة ويقدّرها غريزياً لينتصر على عدوه. فإنّ الظروف الضاغطة والوقائع المتبدلة لا تترك وقتاً كاف للروتين والبيروقراطية المعتادة ولذلك على الفكر أن يكون مستنفراً بصورة دائمة. وقد نضرب مثالاً على ذلك ما جرى قبيل إحدى خطابات الأمين العام لحزب الله. إذ خرج رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو مدّعياً بأنّ حزب الله يخزّن أسلحة في مكان قريب من الضاحية الجنوبية، فلم يتأخر الأمين العام ليردّ مباشرة على الهواء وليطلب من وسائل الإعلام التوجه فوراً إلى المنشأة المزعومة وكشف زيف إدّعاءاته بسرعة حاسمة.
في كلّ الأحوال إنّ بعض الإعلام يستخدم في معاركه التضليل والمغالطات وبعضها يستخدم أساليب التهجم والاستعلاء، وسنذكر هنا بعض الطرق التي تشكّل تأثيراً حاسماً وخطيراً على ساحة المعركة الثقافية وفي ساحات أخرى.
أولاً: التكذيب. كاتهام الخصم بأنهّ ينفذ أجندة خارجية وفي الحقيقة هو يدافع عن قضية إنسانية ووطنية. كاتهام المقاومة بأنها «ذراع إيرانية» وما تقوم به إنما هو لمصلحة إيران وليس لمصلحة لبنان. أو اتهامها بأنّها هي أساس مشكلات البلد الاقتصادية والمالية بسبب «سلاحها» فيما الحقيقة أنّ الأزمة هي بسبب الطائفية والفاسدين والمحسوبيات والمحاصصة إلخ… وفي الحالتين سيقوم الإعلام الكاذب بإنشاء قضيتين أولاها: إنّ ادّعاءكم بأنكم مقاومة وطنية إدّعاء كاذب، وثانيها بأنّ ما تزعمونه من أنّ المشكلة الاقتصادية سببها الطائفية ونحو ذلك لا يمكن أن تكون صادقة!
ثانياً: التشويه. لطالما اسُتعمل هذا الأسلوب في إضعاف الخصم وحرفه عن أهدافه. فمثلاً استعملت أميركا وحلفائها كلمات ضدّ المقاومة ووصمتها بأنها «إرهابية» و»متطرفة» لمنع المقاومة من مواصلة عملها العسكري ومواجهة التهديدات على لبنان. أو أنّ المقاومة تقوم بـ «تبييض الأموال» و «تجارة المخدرات» لعزلها داخلياً وخارجياً وتجريمها من خلال محاكم تُعنى بحقوق الإنسان. إنّ هذا التشويه هدفه المسّ بأشرف مبادئ المقاومة وسمعتها الحسنة وأخلاقها في التعامل مع الأصدقاء، ومع الأعداء أيضاً، وسيجعلها ذلك عرضة للمساءلة أو الريب والشكوك عند ضعاف النفوس وأنّها إنما تفعل ذلك من باب الاستغلال وليس لأجل قضية محقة!
ثالثاً: استخدام الحيل. إنّ العدو قد يلجأ إلى مدحك أحياناً ليهزّ قيم المؤمنين بك. فالمدح هنا هو من باب ضرب معنويات القاعدة الشعبية التي كانت تعتقد أنّ المبادئ هي شيء مقدس لا يمسّ، لكنّها تكتشف من خلال هذه الحيلة أنّ الشخص الذي تؤمن به والحزب الذي تواليه إنما يلجأ إلى البراغماتية والانتهازية والواقعية المفرّطة بالحقوق والثوابت! على سبيل المثال في قضية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة لجأ الإعلام إلى إظهار المقاومة وقيادتها بأنها متلاعبة وتخفي أشياء عن جمهورها وتمارس سياسة ضعيفة اتجاه العدو. ما يعني أنّ كلّ خطابات التعبئة والثورية هي في الواقع تضليل للجماهير وأنّ الحقيقة هي شيء آخر! نعم. قد تنطلي هذه الحيلة على كثيرين وقد ينقلب الموقف من المقاومة بسبب هذه الأسلوب حين تلجأ الجماهير لتتكلم عن تعارض بين دعوى المقاومة بالثورية والمبدئية وما يجري في الواقع. إنّ هذا التلبيس الإعلامي الخطير من شأنه أن يترك أثراً سيئاً على معنويات الجمهور المؤيد للمقاومة بما تضمّنته الأخبار الإعلامية من ملاعبة بتصورات الجمهور لخداعه.
رابعاً: إغضاب الخصم. إنّ إثارة اتهامات متواصلة في وسائل الإعلام ضد الخصم سيدفعه إلى ردود فعل متهوّرة وهذا ما سيكون مناسباً لتجريمه والضغط عليه أكثر وإكراهه على التنازل عن قضايا مبدئية. أو أنّه سيكون بحالة لن يتمكن خلالها من السيطرة والتحكم بقراراته وخياراته. إنّ استعمال أسلوب الاستفزاز والإهانة له مفعول خطير في إثارة جمهور الخصم وحاجته لتنفيس الاحتقان بطرق عنفيّة وغير عقلانية تماماً كما حصل خلال وبعد أحداث السابع عشر من تشرين الاول عام 2019. فالإهانات التي تعرّض لها الأمين العام لحزب الله شخصياً ومباشرة على الهواء عبر وسائل إعلام مختلفة كادت تسبّب بفتنة واسعة النطاق وهذا ما كان يرمي إليه العدو في تهشيم النموذج الأخلاقي الذي يحمله حزب الله طوال سيرته الجهادية.
خامساً: تعميم العيوب الفردية والخاصة. إنّ العدو لا يُقدّم عبر إعلامه الأخطاء التي يرتكبها بعض أفراد من خصومه بأنها أخطاء أو تصرفات فردية شاذة بل يسعى بكلّ جهده لتحويلها إلى وضع عام وسلوك عام وحقيقة معترف بها. وهذا ما سيكوّن انطباعاً لدى الجمهور بأنّ أفراد الحركة الفلانية أو الدولة الفلانية كلهم سيئون وفاسدون ومتطرفون ونحو ذلك من النعوت المشينة.
سادساً: تهشيم القيم التي يحملها الخصم. إنّ العدو لا يترك وسيلة إلا لتهشيم وتوهين قيم الخصم. فالمقاومة على سبيل المثال ستكون حالة سلبية لأنها تدعو للموت فيما الأساس لدى الإنسان أن ينشأ على قيم الحياة والسلام والمحبة والرخاء! فالإعلام بمقدوره تحويل فعل التضحية والفداء في مواجهة الظالمين والمستكبرين إلى حالة موت مجاني واستنزاف لموارد الدولة وهدر للطاقات الشابة ومعاداة المجتمع الدولي. طبعاً العدو يريد هدم قيم العزة والكرامة في نفوس خصومه عبر مغالطات إعلامه.
إنّ بعض هذه الطرق التي أوردناها تستعمل بقوة في مجال الإعلام وتهدف إلى تشويه المفاهيم حتى لو كانت تتناقض مع حقائق تاريخية ودينية وقانونية وجعل الاعتراض عليها مثيراً للسخرية فيظنّ الناس بفعل قوة الإعلام صحة الأسس التي ينطلق منها بل يُعتبر كلّ معاند لها ثائراً على آراء مؤيدة ومقبولة عالمياً! الإعلام اليوم لا يكتفي بالتشويه فقط وإنما تزييف الحقائق وتغيير الوقائع بل ابتداع واختلاق القضايا التي تثير اضطرابات وخلافات بين الناس والمجتمعات والدول. في حين أنّ الإعلام الصادق والذي يجب أن يتحلى بالشجاعة هو الذي ينتصر لقضايا العدل والحق، وهو قادر في صدقه وقوة المثُل فيه أن يحتج على الظلم ويتجنب اليأس ويكون مادة أمل وعمل لأفضل ما تتطلع إليه البشرية. هنا لا بدّ أن نشير إلى أنّه من الخطأ التعامل مع هذه التأثيرات الدعائية بالاعتماد على العقل وحده فالناس يتأثرون بعوامل لاشعورية مثل المخزون التراثي والجهل والعاطفة والمصلحة والأنوية ما يحجب الحقيقة من الوصول إلى عقولهم بل إنّ معظم الناس لا تتقبّل الأدلة والبراهين العقلية بل تميل إلى الانحيازات التي تنشأ بسبب العوامل الآنفة الذكر. ولذلك حين نريد أن نجذب أو نُقنع شخصاً أو مجموعة أو شعباً علينا أن ندرس بيئته الاجتماعية وقيمه ومعتقداته كخطوة أساسية لنفهم بعد ذلك اتجاه مصالحه ونوازعه وعواطفه ومستوى ثقافته لنعرف بعد ذلك طريقة التعامل المطلوبة. إنّ ما يميّز سماحة السيد حسن نصر الله في خطاباته مع بيئة المقاومة وحتى مع البيئات الصديقة أنّه يضع في حسبانه كلّ تلك العوامل ويتسلل منها إلى عقلها بالإتيان بأدلة منسجمة مع عواملها اللاشعورية ولا تتعارض مع أسس الأخلاق وشروط التوافقات الاجتماعية. ورغم مهارة العدو وإتقانه فن الإعلام إلا أنّه لم يستطع أن يحقق نجاحات حاسمة داخل بيئة المقاومة بل إنّ معظم الحملات كان مردودها عكسياً. لا لشي إلا لأنّ هذه البيئة تعرف بوعي حادّ أنّ العدو بارع بالتمثيل ولكنّه لا ينال إعجابها ولا تصفق له ولا تطرب لاختلاقاته وتدرك أنهّ لا يجب أن تقع في الأخطاء نفسها التي وقعت فيها شعوب أخرى في المنطقة والعالم عندما انطلت عليها حيل العدو وأكاذيبه فانزلقت إلى الفتن والنزاعات الدموية.
إنّ أحد أهمّ ميزات بيئة المقاومة هي البصيرة التي يعرّفها الإمام الخامنئي بأنها «الوعي والتنبّه والتيقظ ورسم الاتجاه الصحيح». فإذا كان المطلوب هو عدم الردّ والإهمال على الاتهامات والأكاذيب ساد السكوت. وإذا كان هناك ما يستدعي التوضيح فإنّ الجدال يكون موضوعياً فلا تدخل فيه القضايا الشخصية والمهاترات الصغيرة. وإذا كان هناك من يستعمل الشتيمة والسباب فالردّ يكون أحياناً بالنصيحة أو الإعراض والإغضاء. فلكلّ حالة خصوصيتها وموقفها الذي يتناسب مع «الرشد والدراية» التي تحتم أعلى مستويات الحذر وكظم الغيظ والحلم والصبر على الأذى وغيرها من التصرفات الأخلاقية التي تفوّت على الخصم أو العدو مآربه. فالميدان يتطلب الاقتدار المعنوي كما يرى الإمام الخامنئي. أي: «عدم الاكتراث للألاعيب المادية والدنيوية والانتقادات السياسية الهابطة ورميها كمنديل لا قيمة لها في سلة المهملات»، والبصيرة هي أيضاً: «البوصلة وكشاف النور».
وعلى هذا الأساس تنطلق بيئة المقاومة مجردة من المخاوف وممتلئة بالإرادة. لا تستسلم للضياع والحيرة بل تقرّر دخول المعتركات الجديدة بكلّ شجاعة ومبادرة إلى الفرصة الجديدة بتألق أكبر.