توصية من برلمان لا يمارس سلطته التشريعية؟
} سيرينا ممدوح أبو ضرغم
أعلنت شركة “ألفاريز ومارسال» Alvares&Marsal عشية عيد الاستقلال السابع والسبعين فسخ العقد الموقع مع الحكومة اللبنانية الذي كان قد أبرم بتاريخ 1-9-2020 لغاية التدقيق الجنائي، أي بهدف معرفة خسائر مصرف لبنان والأسباب الحقيقية للانهيار المالي والنقدي، وبالتالي الكشف عن الأخطاء الجوهرية اللاقانونية التي تسبّبت بأزمات مالية واقتصادية. وكان السبب الرئيسي لفسخ العقد، بحسب ما أوضحت الشركة في بيان انسحابها، يعود الى تمنّع مصرف لبنان عن تسليمها المعلومات والمستندات المطلوبة بحجة “السرية المصرفية».
وعليه، سارع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، عملاً بأحكام المادة 53 (الفقرة 10) من الدستور والمادة 145 من النظام الداخلي لمجلس النواب، الى توجيه رسالة الى المجلس بواسطة رئيسه الأستاذ نبيه بري دعا من خلالها النواب للتعاون مع السلطة الإجرائية لتمكين الحكومة من اجراء التدقيق المحاسبي والجنائي في حسابات مصرف لبنان وشمول هذا التدقيق سائر مرافق الدولة العامة تحقيقاً للإصلاح المطلوب وتسهيلاً للحصول على برامج المساعدات التي يحتاج اليها لبنان في وضعه الراهن.
بهذه المبادرة رمى الرئيس عون الكرة في مرمى البرلمان الذي اجتمع بتاريخ 27-11-2020 لمناقشة مضمون رسالة رئيس الجمهورية وأقرّ في جلسة سريعة توصية تنص على إخضاع مصرف لبنان وجميع مرافق الدولة للتدقيق الجنائي. والغريب انّ كافة الأطراف الحاكمة أيّدت التدقيق الجنائي الشامل لكلّ الوزارات والمؤسسات والمجالس والإدارات. مع ذلك، يبقى سؤال بديهي: مَن عرقل، إذن، التدقيق الجنائي؟
هكذا أصبحت الكرة في ملعب الحكومة المستقيلة.
عندها بدأ الجدل حول مدى فعالية وإلزامية هذه التوصية. هل هي توصية عادية ام توصية إلزامية تأخذ طابع القانون؟
من حيث الشكل، التوصية ليست عملاً تشريعياً كونها لا تتجلى في صيغة قانون، وبالتالي يمكن لأيّ طرف في ما بعد وبغية عرقلة عملية التدقيق الجنائي التذرّع بعدم إلزاميتها من جهة، وبقانون السرية المصرفية من جهة أخرى للتأكيد على أنّ القانون لا يُلغى إلا بقانون.
هذا مع العلم أنّ التذرّع بقانون السرية المصرفية غير جائز على الإطلاق إذا كانت الغاية التدقيق في معاملات تتعلق الكشف عن المال العام، وذلك لأنّ القانون المذكور اعتمد كوسيلة لجذب الاستثمارات والودائع الخارجية إلى لبنان، وقد نظم العلاقة بين المودع والمصرف بعدم الإفصاح عن حسابات الطرف الأول تحت طائلة المعاقبة، مستثنياً حالة وجود شبهة هدر أو نهب أو سوء أمانة، حينها ترفع السرية المصرفية المنصوص عنها في المادة 7 من قانون 3 أيلول 1956. غير أنّ جميع حسابات الدولة والمال العام لا تخضع ولا تسري عليها إطلاقاً السرية المصرفية، إذ يُكتفى بطلب مجلس الوزراء رفع السرية كونه السلطة الإجرائية العليا. فهل يُعقل وجود سرية مصرفية على حسابات المال العام؟ وهل من المنطق إخفاء مال الشعب عن أيّ عملية تدقيق؟
لنسلّم جدلاً أنّ مجلس النواب أقرّ بكلّ أطرافه توصية التدقيق الجنائي، فما الذي منعه من ممارسة سلطته التشريعية واستكمال توصيته بقانون؟ ألم يقرّ المجلس خلال انعقاد الجلسة التشريعية نفسها القانون الرامي إلى إعطاء تعويضات ورواتب لذوي ضحايا انفجار المرفأ، وتمكين الذين أصيبوا بإعاقة الاستفادة من تقديمات الضمان الاجتماعي؟
من حيث المضمون، تقتصر التوصية الصادرة عن مجلس النواب على حسابات مصرف لبنان والوزارات والمؤسسات والمجالس والإدارات والصناديق العامة. لكن ماذا عن المصارف الخاصة؟ وماذا عن حسابات كبار المودعين والمساهمين الذين يشكّلون بأغلبيتهم فريقاً من المنظومة السياسية الحاكمة نفسها التي تدّعي النزاهة؟
إنّ حسابات هذه المصارف محمية بقانون السرية المصرفية ولا يمكن رفعها من دون تعديله، ذلك أننا على يقين بأنّ هذه الحسابات تخفي أسراراً أو عمليات مشبوهة ربما تشكّل حجر الأساس للتدقيق الجنائي. والسؤال هنا: هل سيلقى العقد الجديد في حال إبرامه مصير سلفه عندما تطلب الشركة المختصة الكشف عن حسابات المصارف الخاصة لضرورات التدقيق الجنائي؟
الجواب طبعاً نعم، والعقد سيُفسخ مجدّداً. لأنه يستحيل ان يقوم فاسد بمحاسبة نفسه، ومن المستحيل أن يكشف ثروات راكمها على مدى 40 عاماً.
انّ ما شهدناه في المجلس النيابي هو مسرحية هزلية أبطالها ممثلون فاشلون أشبه بعصابة تتآمر على شعب جائع فقد ضروريات عيشه وأبسط حقوقه. والآن ها هم الحكام يخططون لكارثة أشبه بزلزال يجعل من لبنان بلداً تسوده شريعة الغاب، وذلك إذا ما جرى رفع الدعم عن المواد الغذائية والقمح والدواء والمحروقات.
شعب لبنان العظيم يجوع، والسياسيون لا حياة لمن تنادي…