حُلمان
د.عبدالمجيد زراقط
كان أ. د. يحاضر في موضوع «القصة القصيرة وأشكالها الجديدة»، وكنت أكتب. وعندما كنت أرفع رأسي بين وقتٍ واَخر، كنت أراه ينظر اليَّ، ويبتسم. وعندما أنهى محاضرته، وخرج الطلَّاب، كنت أنا أراجع ما كتبته، فجاء ووقف قربي، وانحنى، وراح يقرأ ما كنت قد كتبته، ثم جلس الى جانبي، وراح يتابع القراءة.
انتهينا في الوقت نفسه، هو من القراءة، وأنا من المراجعة، وسمعته يسألني: أنت لم تكن تتابع المحاضرة، كما بدا لي، وأنا كنت أراك تكتب!؟ بقيت ساكتاً، فقال: مَن هو كاتب هذه القصة التي قرأتها أنا الاَن؟ فقلت: أنا.
أنت…!؟ سأل.
قلت: أنا…
قال: لديَّ أسئلة كثيرة تجيبني عنها في ما بعد، وان كان ما تقوله صحيحاً فأنت قاصٌّ موهوب ينبغي أن نحتفل بك.
غمرني الفرح، فقلت: هذا ما أحلم به. نهض، وهو يقول: غداً، تكون قصتك موضوع المحاضرة. نحلِّلها بوصفها قصة جديدة. لم أدر الاَّ وأنا أحضنه، وأقبِّله، وأقول: شكراً، شكراً أستاذي الحبيب…
خرج، وبقيت جالساً في مقعدي، ولم أشعر الاَّ وأنا أقف على المنبر قرب أ. د. أقرأ قصتي، والأنظار متعلِّقة بي، ولم أكن أرى سوى ليلى ولبنى الناظرتين إليّ بإعجاب…
(اسمي يقظان. سمَّاني كثيرون سهيان. معهم حقّ، فأنا دائماً سهيان كما يقولون. أنا طالب في الجامعة اللبنانية، قسم اللغة العربية واَدابها. أقيم في شقة صغيرة، في حي من أحياء بيروت، قريب من كلية الاَداب، استأجرها أبي لي وأثَّثها، منذ أن تركت قريتي، والتحقت بالجامعة. لا تفوتني محاضرة من المحاضرات. لكن في كثير من المحاضرات أكون غائباً. ليس سهياناً كما يقولون، وإنما أكون في عالم اَخر. يأتيني هذا العالم من دون أن أدري، فأعيش فيه، وإن كنتُ لا أستطيع أن أكتب كلَّ شيءٍ عمَّا يجري في هذا العالم، فسوف أكتب لكم ما حدث في ساعة من ساعاته.
كان الأستاذ المحاضر يلقي محاضرته عن الشاعر الذي ملأ الدنيا، وشغل الناس. بقيتُ معه للحظات. وعندما استشهد بالبيت: اذا غامرت في شرف مروم / فلا تقنع بما دون النجوم…، انتقلت إلى عالمي. أرى شريطاً من الصور يمرُّ أمامي. ترافقه راوية عذبة الصوت. «اللوح» الأخضر أمامي تحوَّل إلى شاشةٍ كبيرة. طال «اللوح» وعرض وشعَّت الأضواء منه، ورافقَت صوت الراوية الساحر موسيقى ناعمة أطربتني. وغبتُ أرى وأسمع. أطلَّت ليلى جميلة الجامعة تروي. عيناها الناعستان أسرتاني، فذبت، وأنا أسمع وأفرح:
«الواحدة، بعد منتصف الليل، المذياع أخرس. النور منطفئ. الهدوء يضجُّ. العفاريت تصرخ. اليقظة لا تنزاح عن رأسي. تمتلكه. أراه يلاعب شعرها الأشقر الطويل…».
الراوية ليلى تمدُّ يدها الى شعرها الأسود الطويل المنسدل على كتفيها. تردُّه، فيغطِّي وجهها. ثم تردُّه… وتعود تروي:
«عدتُ الى غرفتنا… لبنى شريكتي في الغرفة، لبنى الشقراء «الممصوصة» في الغرفة تتقلَّب في سريرها. ترفع رأسها. تدعك عينيها. تراني. تقول: جئتُ؟ أين كنتُ؟ انتظرتُك طويلاً… كاذبة كدت أقول لها. أنت كنت معه. بين ذراعيه. لكنِّي لم أفه بكلمة. عضضت شفتي السفلى. ورحت أحدِّث نفسي: ماذا يحدث لي!؟ ماذا!؟ حكايتي معه لا تُصدَّق… كعادته، وصل الى باحة القسم قبل موعد بدء المحاضرات. يحمل في يده اليمنى حقيبته السوداء الصغيرة، وفي يده اليسرى سُبَّحة سوداء صغيرة. اقترب منا. تنفرج شفتاه عن ابتسامة صغيرة. حيَّا بهزَّة رأس «معجوقة»، وركَن في زاويته المعلومة، ووقف يردُّ تحيّات الزملاء بإشارات من يده اليسرى التي كانت تواصل اللعب بالسبَّحة السوداء الصغيرة».
كنتُ أصغي الى الصوت العذب، والبهجة مرجٌ أخضر مزهر يمتدُّ أمامي. وغبتُ أرى وأسمع:
«… ساحرة… جميلة الجامعة… أحلى الحلى… كلمات اعتدتُ سماعها من الجميع. هو لم يقلها. لم يقل كلمة واحدة منها. بخيل… لم يُفرِّط الاَّ بتلك الانفراجة الصغيرة التي كانت تبديها شفتاه… فنرى صفَّ اللؤلؤ الجميل… وفي الصفِّ لا يفوه بكلمة. وإن سئل يجيب بكلمات لا علاقة لها بالموضوع، كأنَّه لم يكن موجوداً، أو كأنَّه لم يسمع… خطر لي أن أسأل: هل هو أصمُّ؟ لا… إنه يسمع ويتكلَّم، لكن مع صديقيه الوحيدين اللذين يقولان: هو قرويّ جاء حديثاً الى المدينة…».
أنا «قرويٌّ في المدينة»، كما يقول صديقاي، وهما قرويَّان مثلي، لكنهما سبقاني الى المدينة، والى كلِّ شيء فيها. منذ جئت الى المدينة فُتنت بالبنات الجميلات، الكاشفات شعورهن وزنودهن وصدورهن و…، وأنا…
وعاد الصوت يشدُّني:
«أنا ملكة الجامعة… لا منافِسة لي… صحيح أنَّ لبنى، شريكتي في الغرفة، تحاول، ولكن شتان ما بيني وبينها… كفراشة أطير من حلقة الى حلقة، أضحك، وأُشيع الضحك والفرح. الجميع يتسابقون الى حديث معي… الى كلمة… الى ابتسامة الَّا هو. لم أُضِع لحظة من أجل أحد… وهو لم يُضع لحظةً من أجلي… لمَ يتجاهلني!؟ لمَ يتحدَّاني!؟ كدتُ أشنُّ عليه حملة سخرية، لكنِّي عدلت عن رأيي. ورحت أجمع المعلومات عنه. وعرفت أين يقيم، ومتى يخرج، ومتى يعود، ومن يُصاحب، وقيل لي: ان فتاة تزوره أحياناً. لم أعرف من هي. تأتي متخفِّية… لا بدَّ من أن أعرف مَن هي، وهل هي أجمل منِّي!؟…».
خلتها تسألني: هل هي أجمل منِّي؟ قلت لها: أنت الأجمل، وهي الأحلى…، هي سبقتك، وأتت اليَّ، وأنت ما زلت مغرورة متكبِّرة لم تأت… أنا أنتظرك، ولا بدَّ من أن تأتي… وعاد الصوت يشدُّني:
«الليلة أحتفل بعيد ميلادي. الجميع سيأتون حاملين الإعجاب والهدايا. لن يأتي إن لم أدعُه. ولمَ لا أدعوه؟ يأتي ويحمل هديَّته، ماذا في قريتهم ليهديني ايّاه؟ لكنه غادر المبنى. نبتت الفكرة في رأسي. أذهب اليه في بيته. أدعوه وأرى تلك التي تزوره ليلاً. ولمَّا حلَّ الليل تمشَّيت أقصده. فضَّلت الذِّهاب مشياً على قدميَّ، ليكون لديَّ وقت أحضِّر فيه ما سوف أفعله، وما سوف أقوله له… أقرع الباب. يفتحه. أدخل. أبتسم ابتسامتي الوضَّاءة. يرتبك. أسلِّم عليه، وأدعوه… وصلت. باب الشقة مردود، غير مقفل. دفعته. ودخلت. رأيتهما. تراجعتُ كالمجنونة. أردتُ أن أصرخ: كلبة… لكني أخرست صرختي، ولم أدر الاَّ، وأنا أتمشَّى على شاطئ البحر أفكِّر في ما سوف أفعله…».
موسيقى البهجة تدقُّ، تحيي عيداً في عالمي. وعدتُ أنصت، أنصت الى الصوت المخنوق، وتلك الموسيقى تصاحبه:
سأنتقم منها تلك… «لبنى التي كانت تلومني لأني أهتمُّ به، أجدها تتلوَّى بين ذراعيه!».
هتفت: جميل… جميل…
أعادني صوتٌ قويٌّ: ما هو الجميل؟ أنا أسألك عن شعر المتنبي الذي أطلنا الحديث عنه؟
قلت:
إذا غامرت في شرفٍ مروم،
فلا تقنع بما دون النجوم…).
وقفت ليلى ولبنى تحتجَّان، وتقولان: كذَّاب… كذَّاب… دائماً يكتب… دائماً يكتب الكذب…
فقلت: هذه قصة ذات بناء متخيَّل، كما يقول أستاذنا.
قال أ. د.: صحيح… قصة متخيَّلة تستأهل أن نحلِّلها، ونهنِّى كاتبها، القاص…
لم أسمع ما يقولون. كنت أحلم بالمجد الاَتي….