الانهيار الماليّ بين الإنكار والنفاق
بشارة مرهج*
في حلقة تلفزيونية مشهورة جرت بالأمس القريب تسابق مقدّم الحلقة وبعض الضيوف على الدفاع عن رياض سلامة، حاكم البنك المركزي، وإظهاره بمظهر المظلوم الذي تنهال عليه سهام النقد والتجريح من مواقع عدة تريد تبرئة أصحابها ومرجعيّاتها مقابل إلقاء لوم الانهيار المالي والنقدي على الحاكم وحده. ولتعزيز وجهة نظرهم يعدّد هؤلاء الارتكابات الفاحشة التي حصلت في بعض الوزارات والمؤسّسات والمصالح وأدّت إلى انكشاف الاقتصاد اللبناني بعد أن استنزفته السياسة الفئوية المصحوبة بطغيان الاستيراد وتفشي الهدر والفساد.
وإذا كان من حقّ أيّ لبناني الدفاع عن الحاكم أو سواه، فمن الضروري أن يكون الدفاع منطقياً ومبنياً على الحقائق والوقائع وليس كلاماً عاماً يتخذ طابع الموقف الجامد، خاصة أن الحاكم شخصية عامة تتولى مسؤولية حساسة في الدولة وهيكليتها المتداعية. ولما كان دفاع مقدم الحلقة وبعض ضيوفه دفاعاً دوغمائياً يفتقر إلى الإسناد، فمن حقنا أن نطرح أمام هؤلاء الذين أطلّوا من مركز مؤثّر في الرأي العام بعض الأسئلة التي يحمل بعضها طابع الوقائع بغية الإضاءة على أمور تمّ – برأينا – التستر عليها أو تحريفها رغم أنها أمور فظيعة أدّت إلى آلام عظيمة تخرق اليوم عظام ملايين اللبنانيين الذين اكتووا بنار الإهمال والفساد والمحاصصة.
أولاً: البنك المركزي منوطة به مسؤولية الحفاظ على سلامة الليرة اللبنانية، فهل يقول الواقع المزري الذي نعيشه اليوم أنّ الحاكم أدّى هذه المهمة بنجاح أم قصّر فيها تقصيراً فادحاً؟
ثانياً: البنك المركزي مسؤول عن ودائع الناس مثله مثل المصارف، وذلك عبر الاحتياطي الإلزامي الذي يفرضه على المصارف بموجب القانون، كما من خلال مراقبته الدائمة لحركة القطاع المصرفي وسلامة حسابات المصارف ذاتها، فهل قام الحاكم ومعه «لجنة الرقابة على المصارف» ومفوض الحكومة لدى البنك المركزي بهذه المهمة كما ينبغي، أم أنه غضّ النظر عن المخالفات والفضائح المصرفية التي كانت تتزايد وتتفاقم وتلتهم ودائع الناس على مرّ الأيام؟
ثالثاً: هل درس الحاكم مضمون الهندسات المالية قبل وضعها موضع التنفيذ مستشيراً وزير المالية أو رئيس الحكومة أو رئيس الجمهورية في هذا الأمر، أم أنه ركب هذا المركب الخشن وحده دونما اعتبار لخطورة هذه الخطوة التي عارضتها بشدّة الدائرة القانونية في البنك المركزي وحذّرت من مغبة اعتمادها جنباً إلى جنب مع عدد من الأساتذة والخبراء والنواب الذين أدانوا هذه الخطوة الملتبسة، والتي أفادت منها المصارف المتعثرة بمليارات الدولارات على حساب المال العام؟
رابعاً: هل درس الحاكم معنى كلامه عندما أكّد مراراً بأنه لن يسمح بإفلاس أيّ بنك متجاهلاً أثر ذلك على بعض أصحاب ومدراء البنوك الذين اعتبروا كلامه إجازة للتصرف كما يحلو لهم تسليفاً واستثماراً ومضاربة لمعرفتهم بأنّ الحاكم لن يشاركهم إذا ربحوا، ولن يعاقبهم إذا خسروا، وإنما سيعوّض عليهم بطرق وأساليب لم ينص عليها قانون النقد والتسليف، ولم تأمر بها الحكومة. فإذا كان الحاكم يدرك خطورة رفع المحاسبة عن جماعة تتعامل وتتاجر بأموال الغير وأقدَم على هذه الخطوة فتلك مصيبة، أما إذا أقدم عليها من دون أن يعلم، فالمصيبة أعظم.
خامساً: هل فكر الحاكم في معنى ومغزى رفضه طلب مجلس الوزراء تسليم حسابات البنك المركزي لشركة ألفاريز – مارسال، ومدى تأثير ذلك على سمعة الدولة وصدقيّتها وتماسكها وتداعيات ذلك كله على الاقتصاد الوطني والمالية العامة، حيث بدا الأمر وكأنّ لبنان يفتقر لأبسط مقوّمات الدولة، بعد أن أصبح ساحة لأصحاب المال والنفوذ وعصاباتهم المزروعة في كلّ قطاع، ومن بينها قطاع الإعلام. هذا من دون أن نغفل بأنّ رفض الحاكم تسليم الحسابات يعزّز الشبهة حول تصرفاته في وقت كان يُفترض به أن يرحّب بالتحقيق المحاسبي الجنائي الذي من شأنه أن يبرّئ ساحته ويعزز الثقة مرة أخرى بالقطاع المصرفي فيما لو كان بريئاً من التهم الموجهة إليه من أكثر من خبير ومرجع ومسؤول.
إنّ الخوف من التحقيق والعمل على عرقلته بكلّ الوسائل يعني شيئاً واحداً لم يعد بالإمكان إنكاره وهو أنّ «المعنيين» يرفضون كشف الحقيقة لأنّ نارها تضيء وتدين في آن.
سادساً: عندما كان الحاكم يوظف فوق حاجة المصرف ويمنح القروض استثنائياً بفوائد لا تتعدّى الثلاثة بالمئة ويوزع الأعطيات يميناً ويساراً لمستشارين وإعلاميين ونافذين، هل كان في ذلك يستجيب لأوامر وطلبات الحكومة أم كان يفعل ذلك لأغراض ذاتية ومنها بالطبع تعزيز وضعه السياسي وزيادة فرصه للقفز إلى موقع رئاسة الجمهورية؟
سابعاً: إذا كان الحاكم ينفذ طلبات الحكومة وسياساتها فلماذا إذن رفض خطتها المالية وساهم في تقويضها، ولماذا إذن رفض مشروع «الكابيتال كونترول» ومشروع إعادة الأموال المهرّبة والمحوّلة إلى الخارج بطريقة مشبوهة؟
ثامناً: عندما كان الحاكم يطمئن الجميع إلى أنّ الليرة بخير وأنّ ارتفاع سعر الدولار في السوق الفعلي هو هامشي ولا يمثل سوى 2 % من حركة السوق، فهل كان يقول ذلك بتوجيه من الحكومة أم بمبادرة منه؟ ثم هل كان يعلم أنّ كلامه حين ذاك صحيح ومسند أم كان مجرد إعلان لكسب الوقت وخداع الناس!
صحيح أنّ الحكومات المتعاقبة لا يمكن أن تتنصّل من مسؤولية الانهيار، ولكن التذرّع بمسؤولية الحكومة لإنكار مسؤولية الحاكم عن هذا الانهيار، فهذا من طبائع الاستبداد ولا يمكن إعادة البناء بوجود هذا الكمّ الهائل من الكذب والنفاق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نائب ووزير سابق.