لماذا أدافع عن فلسطين؟
} معن بشور*
لا أبالغ حين أقول إنّ كلمة «فلسطين» تردّدت أمامي وكنت طفلاً لم يبلغ الرابعة من عمره، حين سمعت أهلي يتحدثون عنها فيما كانت حشود من المواطنين تمرّ من أمام منزلنا آنذاك في حي الزاهرية في مدينة طرابلس متوجهة إلى شارع التل لاستقبال القائد فوزي القاوقجي بعد نفيه لسنوات، وكان قد عيّن حديثاً قائداً لجيش الإنقاذ في فلسطين في مطلع عام 1947..
ومع مرور السنين كنت أحاول أن أعرف من أهلي أكثر عن فلسطين، وعما حصل لأرضها من احتلال، ولأهلها من تهجير، إلى أن انتقل سكننا من طرابلس إلى رأس بيروت حيث العديد من العائلات الفلسطينية، الميسورة نسبياً، كانت تقيم بعد نكبة 1948، وبات أكثر أصدقائي في معهد الاستقلال للدراسة الإبتدائية، والثانوية العامة (IC) للدراسة الاعدادية والثانوية، هم من الفلسطينيين لدرجة أنّ الكثيرين كانوا يظنون اني فلسطيني بسبب لهجتي التي بدت متأثرة باللهجة الفلسطينية…
بدأت فلسطين تتحوّل في عقلي وقلبي إلى قضية أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، الذي شارك فيها الكيان الصهيوني إلى جانب بريطانيا وفرنسا، وعرفت بالمجازر التي ارتكبها «الإسرائيليون» بحق الفلسطينيين، لا سيّما في بلدة كفر قاسم التي أقام الصهاينة فيها مجزرة في اليوم الأول للعدوان على مصر..
يومها بدأ الارتباط عندي بين فلسطين كأرض مغتصبة، وكشعب مشرّد، وبين العروبة التي كانت مستهدفة في وحدتها ووجودها من خلال العدو الذي تمّ زرعه في وسط أمتنا ليمنع التلاقي بين مشرقها ومغربها، لا سيّما بين مصر وبلاد الشام، وهو وعي بدأ يتعمّق عندي مع الزمن، وبعد الاطلاع على الوثائق التي تثبت أنّ قيام هذا الكيان لم يكن اعتباطياً بل كان جزءاً من مخطط يستهدف تجزئة الأمّة وتفتيت مجتمعاتها والسطو على مواردها..
وحين بدأت نشاطي السياسي، وأنا في الرابعة عشرة من عمري، وفي أجواء المدّ القومي العربي مع قيام الوحدة بين مصر وسورية عام 1958، وذلك أولاً في إطار حركة القوميين العرب عام 1959، التي كان التركيز كبيراً في أدبياتها على تحرير فلسطين أولاً، ثم في حزب البعث صيف عام 1961، حيث كان البعثيون يرون في فلسطين القضية المركزية للأمّة العربية، أخذت علاقتي بفلسطين تتجذّر فكرياً وسياسياً ونضالياً حتى نكسة 1967، حيث وجدت نفسي متوجّهاً للالتحاق بصفوف الفدائيين في أغوار الأردن عبر المساهمة مع عدد من الشخصيات العربية الكبيرة كالدكتور منيف الرزاز، والدكتور زيد حيدر، والدكتور عبد الوهاب الكيالي والمقدّم احمد حجو (رحمهم الله)، والرفيقان الأستاذ بشارة مرهج، والدكتور عزمي الجشي (أطال الله في عمرهما) والمرحومان المناضل محمد فاضل البياتي عضو قيادة حزب البعث في العراق في أواخر الستينيات، والمناضل طه السامرائي، وغيرهم في تأسيس جبهة التحرير العربية التي أردناها أن تكون إطاراً للمشاركة العربية في معركة تحرير فلسطين إدراكاً منا أنّ فلسطين هي قضية الأمّة كلها، ليست قضية الفلسطينيين وحدهم، بل أنّ «فلسطين هي طريق الوحدة، كما الوحدة طريق فلسطين»، كما جاء في البيان التأسيسي لجبهة التحرير العربية الذي صيغ عام 1969، الذي حذر الفلسطينيين من أمل كاذب إلى يأس غير مبرّر..
طبعاً كان لي أيضاً من خلال عملي، وأنا طالب في الجامعتين الأميركية واللبنانية، في جريدة «الأحرار» أن أتعرّف على مؤسسي حركة (فتح) وفي مقدّمهم الرئيس الشهيد ياسر عرفات الذي كان يأتي باسم مستعار إلى مكاتب الجريدة حاملاً البلاغات الأولى للعاصفة التي لم تكن تنشرها الصحف اللبنانية والعربية، ما عدا جريدة «الأحرار»، الناطقة باسم حزب البعث، ثم كنا نلتقي مع بقية المؤسسين أبو جهاد، أبو أياد، أبو صبري، أبو الهول، أبو يوسف النجار، وغيرهم.. في منزل المهندس خالد اليشرطي الذي كان قيادياً كبيراً في حزب البعث ثم أصبح له موقع في حركة فتح.. وأذكر يومها أننا بدأنا بجمع التبرّعات «لقوات العاصفة» الناهضة بشكل سري في الجامعات والمؤسسات اللبنانية إيماناً منا أنّ علاقتنا بالثورة هي علاقة بذل تجاهها لا أخذ منها، كما نظمنا مظاهرات احتجاجية على استشهاد الفدائي جلال كوش في سجون السلطة اللبنانية في مطلع عام 1966…
في الأردن حيث أمضيت أشهراً خلال عامي 1969 و 1970، توثقت علاقتي بالأخوة من مختلف الفصائل، ولم أغادر الأردن إلا بعد أن بدأت الاشتباكات بين الجيش الأردني وفصائل المقاومة الفلسطينية، قائلاً لرفاقي: «أنا جئت إلى الأردن لأقاتل العدو المحتلّ لا لاقاتل جيشاً عربياً»…
ولكن بعد عام 1970، ومجيء قيادات المقاومة الفلسطينية إلى لبنان، تطوّرت علاقتي بالثورة الفلسطينية التي عاملتني كواحد من أبنائها، سواء من خلال دوري في جبهة التحرير العربية (وقد انتخبت في قيادتها عام 1972 حتى العام1974)، أو من خلال اختياري عضواً في مجلس الإعلام الفلسطيني الموحد عام 1972، الذي كان يضمّ رموزاً ثقافية وإعلامية فلسطينية برئاسة كمال ناصر، وعضوية شفيق الحوت، وغسان كنفاني، وماجد أبو شرار، ومحمد كتمتو، وعلي أسحق، ثم انتخابي كأول عربي غير فلسطيني في الأمانة العامة للاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين في مؤتمره الذي انعقد في تونس عام 1977…
عشنا في لبنان مع الثورة الفلسطينية أياماً عصيبة، كنا نحرص مع العقلاء في قيادتها، وفي الحركة الوطنية اللبنانية، أن نطفئ بكلّ الوسائل المتاحة نيران حرب أهلية مشتعلة، مدركين أنّ الهدف من إشعالها لم يكن تصفية الثورة الفلسطينية كحاملة لقضية فلسطين فحسب، بل كان أيضاً من أجل تدمير لبنان كنقيض استراتيجي للمشروع العنصري الصهيوني، ولصرف الأنظار عما يُحاك للأمّة العربية من مشاريع اتفاقات مشبوهة ترمي إلى إخراج أقطارنا العربية، بدءاً من القطر الأكبر مصر، من دائرة الصراع مع العدو الصهيوني.
في حرب 1982، كان لي مع رفاقي في تجمع اللجان والروابط الشعبية الذي أسّسناه مع كوكبة من المناضلين العروبيين بعثيين وناصريين ويساريين، أو في مجلس القوى الشعبية الذي كان يضمّ مجموعة قوى فاعلة ميدانياً كجيش لبنان العربي، وحركة أنصار الثورة، والتنظيم الطليعي، وحزب رزكاري الكردي، حركة صلاح الدين، والتنظيم الناصري (قوات ناصر)، وطلائع الثورة العربية، وحركة صلاح الدين والاتحاد الاشتراكي العربي (المكتب السياسي)، شرف المشاركة في مواجهة الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، وكانت مواجهتنا عسكرية وسياسية واجتماعية وإعلامية، حيث ارتقى لنا شهداء وتمّ أسر مناضلين، وما زال بعضهم مفقوداً حتى الساعة، وكان لنا الشرف أن نكون جزءاً من المشاركين في ملحمة بيروت التي استمرت أكثر من 90 يوماً، وانتهت بدحر الاحتلال عن العاصمة وانطلاق المقاومة الوطنية اللبنانية، حيث ارتقى لنا أوّل شهيدين في مواجهة التوغل الصهيوني في العاصمة، وبعدها المقاومة الإسلامية التي حررت الأرض اللبنانية دون قيد أو شرط عام 2000، وصدّت العدوان الذي استمرّ 33 يوماً عام 2006..
أوائل سبعينيات القرن الماضي كان لنا، لا سيّما الرفيقان بشارة مرهج والدكتور رغيد لصلح دور فاعل في تأسيس الجبهة العربية المشاركة مع الثورة الفلسطينية برئاسة الشهيد كمال جنبلاط، وبمشاركة قادة عرب كبار كالشهيد عبد الخالق السامرائي من العراق، والقيادي الجزائري البارز جلول ملائكة، والقيادي المغربي المجاهد الفقيه محمد البصري.
ولقد حرصنا، رغم كلّ ما أصاب حركة التحرر العربي من نكبات، أن نبقى حاملين لجذوة الصراع مع العدو الصهيوني من خلال المشاركة في المقاومة في جنوب لبنان (الرابطة الشعبية للدفاع عن الجنوب، رابطة مصر العروبة، قوات جبل عامل)، أو من خلال المؤتمرات القومية التي كانت فلسطين عنواناً رئيسياً فيها، أو الملتقيات العربية والدولية من أجل القدس وحق العودة والأسرى والجولان والمقاومة، وصولاً إلى «المنتدى العربي الدولي من أجل العدالة العدالة لفلسطين»، والمساهمة بإطلاق هيئات مناهضة للتطبيع في لبنان وخارجه، بالإضافة إلى تأسيس الحملة الأهلية لنصرة فلسطين وقضايا الأمّة (عام 2002)، واللجنة الوطنية للدفاع عن الأسرى والمعتقلين في سجون الاحتلال التي انطلقت في العام ذاته والتي تنظم كلّ شهر اعتصام خميس الأسرى.
لذلك لم تكن علاقتنا بفلسطين هي علاقة مساندة أو تضامن فقط، بل كانت علاقة مشاركة مصيرية في معارك شعبها الهادفة إلى مواجهة الاحتلال ودعم المقاومة، انطلاقاً من قناعاتنا كقوميين عرب حريصين على التلاقي مع كلّ تيارات الأمّة الملتزمة بالمشروع النهضوي، بأنّ أعداءنا لم يستهدفوا فلسطين لذاتها، بل استهدفوا أمّتنا كلها من خلالها، وأرادوا إقامة حاجزاً لمنع الوحدة العربية، كما قيام رأس حربة لتفتيت مجتمعاتنا والسطو على مواردنا.
لذلك لم يكن ممكناً أن نكون وحدويين عرب إذا لم تكن فلسطين في أولويات نضالنا، ولم يكن ممكناً أن نكون حاملي مشروع نهضوي عربي يسعى للوحدة وللاستقلال والتنمية والعدالة والديمقراطية والتجدّد الحضاري إذا لم يكن النضال ضدّ المشروع الصهيوني/ الاستعماري وقاعدته الكيان الصهيوني رأس حربة مشروعنا النهضوي.
لذلك لم تكن فلسطين، بالنسبة للمدرسة الفكرية والسياسية التي انتمي إليها، مجرد قضية قومية لنصرة شعب شقيق فحسب، بل كانت أيضاً قضية وطنية لكلّ قطر مثلما هي قضية الأمّة كلها، بل قضية الإنسانية كلها التي لا يمكن فصلها عن قيمها المتمثلة بالعدالة وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
ولقد كان شعارنا في مسيرتنا دائماً هو أنّ «فلسطين قضية من اقترب منها اعتز، ومن ابتعد عنها اهتز»، وكان شعارنا خلال الحرب في لبنان قبل الغزو الإسرائيلي عام 1982، «مع الثورة الفلسطينية في وجه أعدائها وأخطائها، وسنبقى كذلك…
*الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي،
رئيس المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن